إشكالية العقل والنقل

هذه الإشكالية واحدة من إشكاليات الثقافة الإسلامية، التي عادت اليوم إلى الظهور في ساحتنا الفكرية في سياق الحوارات الواسعة الجارية تحت شعار تجديد الدين .

ومن المعلوم أن هذه الإشكالية ليست إشكالية قديمة، ارتبطت تاريخياً بـ "علم الكلام"، ففي خضم الجدل الذي دار حول مسائل "العقيدة" ظهرت فرقة المعتزلة (80هـ - 131 هـ) التي غلبت عليها النزعة العقلانية، فقدمت العقل على النقل، بحجة أسبقية الفكر على السمع، ومن هذا المنطلق رفض المعتزلة الأحاديث النبوية التي لا يقرها العقل، وذهبوا إلى أبعد من هذا فقالوا بوجوب معرفة الله بالعقل ولو لم يرد شرع بذلك !

وقد مر ردح من الزمان في تاريخ ثقافتنا الإسلامية كانت فيه العلاقة بين النّقل والعقل وحجيّة كل منهما مثار جدلٍ حاد بين منظومات فكريّة مختلفة، وقد تمخض هذا الجدل عن عدد من الإتّجاهات والمدارس الفكريّة الّتي تعاملت مع النّقل والعقل على أسسٍ ومناهج متباينة :

- منها من رأى بين النقل والعقل علاقةً تكامليّة تلازمية .

- ومنها من رأى أنّ العقل هو أساس النّقل، وأن بينهما علاقةً تعاقُبيّة، لا تلازمية.

- ومنها من رأى أنّ العقل هو أساس كل شيء، فاستبعد النّقل بشكل مطلق !

وقد جاء على علماء الإسلام وفلاسفته حين من الدهر أضحت فيه مسألة التوفيق بين النقل والعقل واحدة من أبرز المسائل التي انشغلوا بها ، وقد انتهى الجدل الطويل حول هذه القضية إلى أن :

• كل ما جاء في القرآن الكريم وما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قطعاً لا يعارض صحيح المعقول .

• وأن صحيح المعقول لا يمكن أن يعارض ما جاء في القرآن الكريم، وما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وهذا ما انتهى إليه أكابر العلماء والفقهاء والمفسرين والفلاسفة، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ ) رحمه الله تعالى، الذي خصص كتاباً كاملاً حول (درء تعارض العقل والنقل) ولخَّص الفقيه الإمام ابن حزم (ت 456 هـ) هذه القضية بقوله: (إن كلُّ ما صَحَّ ببرهان فهو في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم منصوصٌ مسطورٌ، يَعْلَمُهُ كلُّ مَنْ أحْكَمَ النَّظَرَ وأيَّدَهُ اللهُ تعالى بِفَهْمٍ، وأما ما عدا ذلكَ مما لا يَصِحُّ ببرهانٍ إنما هو إقناعٌ أو شَغَبٌ، فالقرآنُ وكلامُ النبي صلى الله عليه وسلم منه خاليان) ، وناقش الفقيه الفيلسوف ابن رشد (ت595 هـ) هذه المسألة، وانتهى فيها إلى أن الخطاب الديني هو دوماً على وفاق مع ما يقرره العقل، إما بدلالته الظاهرة وإما بتأويل .

ويرجع اهتمامنا هنا بالعلاقة ما بين (النقل والعقل) إلى حقيقة مفادها أنه كما يوجد لكل إنسان عقلية تميزه عن بقية البشر، فإن لكل أمة كذلك عقلية تميزها عن بقية الأمم، وتتشكل عقلية الأمة عادة من خلال تفاعل الأمة مع ظروفها التاريخية والاجتماعية والفكرية والبيئية، أي مع جملة الظروف التي تشكل ثقافتها ( Culture) وبما أن النص الديني هو أهم مكون من مكونات الثقافة، وهو ذو مكانة خاصة عند الأمم ذات المرجعية الدينية، فإن دراسة العلاقة ما بين النص والعقل تصبح مطلباً أساسياً في إطار بحثنا هذا حول الثقافة الإسلامية، لأننا من خلال توصيف هذه العلاقة يمكننا تحديد مواطن القوة ومواطن الضعف في ثقافتنانا الإسلامية، ومعرفة ما يتعلق منها بالنص، وما يتعلق منها بالعقل، وبهذا يمكن أن نحوِّل مواطن الضعف إلى مواطن قوة، وأن ندعم مواطن القوة فنزيدها قوة إلى قوتها .

ولا بد أن نشير هنا إلى التفاعل المتبادل ما بين ثقافة الأمة وعقليتها، فكما أن عقلية الأمة تتأثر بالثقافة وتتشكل من خلالها، فإن العقلية الناتجة عن هذه الثقافة تؤثر بطريقة راجعة فتعيد تشكيل ثقافة الأمة؛ ومن ثم فإن حالة الأمة تتقرر من خلال هذا التفاعل، فإذا كان التفاعل إيجابياً خلاقاً ارتقى بالأمة نحو الأفضل، وإذا كان سلبياً هبط بالأمة وجعلها فريسة للتخلف والانحطاط والتبعية، ووضعها على الطريق نحو الهاوية !

والذي يعنينا من هذه المقدمات أن بعض الذين خاضوا في إشكاليات العقلية الإسلامية كثيراً ما انتهوا عن قصد أو غير قصد إلى نتائج ملتبسة، فزعم بعضهم أن أهم سبب من أسباب تخلف العقلية الإسلامية عن بقية أمم الأرض هو خضوعها لسلطة النص ، فإن كان قصدهم بـالنص نصوص الوحي فإن دعواهم مرفوضة جملة وتفصيلاً، لأن الوحي كله حق (لا يأْتيهِ الباطِلُ من بيِن يديهِ ولا من خَلْفِهِ، تَنْزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ) سورة فصلت 42 .

أما إن كان قصدهم بالنص ذلك التراث العلمي الذي أنتجه المسلمون عبر تاريخهم، من علوم الفقه والأصول والحديث والتفسير والتاريخ وعلم الكلام والفلسفة وغيرها، فإننا نوافقهم - لكن مع شيء من التحفظ الذي لا مجال للتفصيل فيه هنا – لأننا نرى كما يرى بعضهم أن هذا التراث في نهاية المطاف إنجاز بشري يمكن أن يعتريه ما يعتري أي إنجاز بشري آخر من علل أو قصور، ومن ثم فهو بحاجة ما بين فترة وأخرى لإعادة النظر فيه، ومراجعته مراجعة نقدية فاحصة على ضوء المستجدات التي تطرأ على حياة الأمة، وذلك من أجل إعادة تشكيل هذا التراث بما يناسب تبدل الزمان والأحوال، وإلا أمسى التراث عائقاً أمام تفاعل الأمة مع معطيات عصرها .

وخلاصة القول إن النص السماوي يشكل العمود الفقري لثقافتنا الإسلامية، وهو يؤثر تأثيراً عميقاً في تشكيل هذه الثقافة، وتنشأ الإشكالية عندما يحل التراث ـ الذي هو إنجاز بشري غير معصوم ـ محل النص السماوي المعصوم، فتنتقل القدسية من النص إلى التراث، وللخروج من هذه الإشكالية التي تجعل النص أسيراً للتراث ينبغي أن نعطي العقل حقه في النظر والتمحيص والمراجعة، من أجل تحرير النص من إكراهات التراث، لكي يستعيد النص طلاقته الأولى، ويعود من جديد فاعلاً مؤثراً معطاءً في حياة الأمة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين