هل فعل ربنا عادته مع هذه الأمَّة المحمدية؟(3)

قد علمت من المقال الفائت عادة ربنا مع الأمم، وهل فعل تلك العادة ربنا مع هذه الأمَّة؟ ذلك ما نريد أن نقوله لك اليوم، أما عذاب الاستئصال للكفار المكذبين لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن، تمييزاً لهذه الأمَّة عن جميع الأمم، لتميز نبيها صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإنه لا ينكر أحد أنه سيد الجميع وأسماهم منزلة عند مولاه تعالى، فلا غرابة في أن يجير تعالى أمته من عذاب الإبادة، أما غير عذاب الإبادة فقد كان لمن كفر به صلى الله عليه وسلم، ونحن اليوم نرى ذلك بأعيننا من وقت لآخر، ومن راجع أخبار الصحف اليومية رأى من ذلك العجب العجاب، فكم للريح من غارات عليهم تتركهم وقد أنزلت بهم من الخسائر المالية والنفسية ما يستفظع ويستبشع، وهي غارات كثيرة وكثيرة، وكم للبحار من طغيان عليهم وعلى بلادهم تخيل لك قسوته أن بين تلك البحار وبينهم عداوات أيّ عداوات، ولا يتراجع ذلك الطغيان حتى يتلف من أموالهم، ويزهق من أرواحهم، ويعطل من مصالحهم، وينزل بهم من مختلف الرزايا ما يجزع له منهم الجلد الصبور، وكم غضبت عليهم الأرض فأرسلت عليهم من نيرانها ما أحرق الآلاف منهم، وكم انفتحت منها هوّات عظيمة هوت فيها عشرات ومئات الآلاف إلى حيث يخسف بهم وتبتلعهم تلك الهوات ابتلاعاً.

ولا تتعجب إذا قلت لك: أنها تبتلع معهم بلادهم الكثيرة وما حولها من الأرض الواسعة المزروعة، وليس غضب الأرض بأقلّ من غضب السماء عليهم، فكم أمطرتهم صواعق فتكت بالكثير منهم وسحقتهم سحقاً، وكم أفرغت عليهم من مياهها المنهمرة سيولاً هدمت الشواهق من قصورهم، وقطعت القوي من جسورهم، ووقفت السائر من آلات مواصلاتهم، وأغرقت منهم ومن مواشيهم ما يعجز عن ضبطه الإحصاء، ذلك وغيره من أنواع العذاب نقرأ أخباره بأنفسنا في الأنباء البرقية بالصحف من حين لآخر، وهو لا يخفى على من له عهد بتلك الصحف، ونحن لا نشك في أن ذلك معنى قوله تعالى: [وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ] {الرعد:31} ، فهو من معجزات القرآن الباهرة، كيف لا وهو إخبار بغيب كان كما أخبر دون أيّ اختلاف.

ولعلنا إذا أحصينا من هلك من هذه الأمَّة بأنواع العذاب السماوي، تجده يماثل أو يزيد عمَّن هلك من جميع الأمم السابقة بذلك العذاب، ومع ذلك لم يتنبه واحد، ولم يعتبر معتبر، والحاصل من الكل اعتقاد أن تلك الكوارث أمور طبيعية تحدث بنفسها لا تعلق لها بما هم عليه من الكفر والفجور.

لهذا لم يعتبروا وتمادى بهم الكفر واستحكمت الغفلة، وأكبر الظن بهم أنهم لا يستيقظون حتى يروا العذاب الأكبر ؟ عذاب جهنم الأبدي، إذ ذاك يندمون فلا يفيد الندم.

أما المسلمون من هذه الأمَّة قد عاملهم الله تعالى بعادته تماماً، فقد كانوا في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم في منتهى الاستقامة فنصرهم عز وجل منتهى النصر، فكانوا من العزَّة بين الأمم في مستوى لا تدانيه أمَّة، وفي ذلك العهد عهد الصحابة الكرام انتشر الإسلام في أنحاء المعمورة انتشار ضوء الشمس في الوجود، وفتحت مدائن وأقطار كأنها كانت تنفتح وحدها، وكأن من بها ليسوا من البشر المعروف عنهم من العناد ومكافحة المغير والاستماتة في الدفاع عن أوطانهم ما لا يخفى على بصير، وإن ذلك الموضع دهشة لليوم من أعداء المسلمين.

ودام هذا النصر ودام معه عز الأمَّة حتى خفَّ في نفسها تعظيم شعائر دينها، وقلَّ في قلبها خشية ربها وهيبته، وهان عندها أن تقتحم ما تقتحم من موبقات المعاصي، حينئذ سلط عليها ربها أعداءها مرة بعد مرة يفعلون معها الأفاعيل وهي في غاية الضعف أمامهم، ولقد حفظ التاريخ عن هذه الأمَّة أن دخل في بعض الحروب معها واحد فقط من أعدائها شارعاً من شوارع مدينة، وأخذ يجول فيه يمينا ويسارة، يدخل البيوت التي فيه بيتا بيتاً، ولا يخرج من البيت إلا بعد أن يبيد من فيه رجالاً ونساءً وأطفالاً، والجميع مكتوفو الأبدي لا يستطيع واحد منهم أن يدافع عن نفسه بحركة واحدة، إلا واحداً وقف في وجهه وقتله، وأخيراً تبين أن ذلك الواحد امرأة، وهذا خذلان من الله عظيم ؛ إذ قذف في قلوبهم من الهيبة لأعدائهم ما وصل بهم إلى هذا الحدّ المخزي، وهي ضربات يقدرها قدرها من التأديب والإيقاظ أهل الأدب من الناس وذوو الفكر منهم، لكنهم لم يتنهوا ولم يستيقظوا وتمادوا على جرأتهم على أنواع المعاصي صغائرها وكبائرها، بل بلغوا اليوم مبلغ المجاهرة بها، بل لأكثر من هذا وصلوا، وهو أن صارت كبائر الإسلام ترتكب علناً، ومن وراء مرتكبيها رجال ونساء وأنظمة تنظم لهم فعلها وتحميهم من أيّ إيذاء يصل إليهم حتى إيذاء الاعتراض والإنكار، بل لأكثر من هذا وصلوا، وهو أنهم يأتون الكفر الصُّراح دون أيّ ملام عليهم، يقولونه بألسنتهم، ويكتبونه بأقلامهم، وينشرونه بصحفهم السيارة، يقرؤه البعيد والقريب، والجاهل والعالم، ولهذا ضربهم الله تعالى في هذا الزمن بعينه ضربة هو أعلم بمبلغ مداها، أتقضي عليهم نهائياً القضاء الذي لا يبقى بعده مسلم في الأرض؟! أم تكون آثارها أخف من ذلك؟ وهذه الضربة هي ما عليه المسلمون اليوم من ذل لا يسامى، وضعف ليس له على وجه المعمورة قرين، وأيّ ذل فوق ذل أمَّة ليس لها قطر من الأقطار إلا وهو بقبضة عدو من أعدائها؟ ولا تظن أن القبضة من لحم وعظم ودم، لا لا؟ إنها قبضة من حديد ونار، بحيث لو تنفس متنفس منها كان مهدداً بمحوه من الوجود بلا أيّ اكتراث، ولا أي حساب العواقب، وليس لذلك سبب أبداً إلا أنهم غيروا ما بأنفسهم من استقامة فغيَّر الله تعالى ما بهم من نصر وعز، ولو أنهم عادوا فاستقاموا وخافوا ربهم وفعلوا أوامره واجتنبوا نواهيه لعاد فأعاد فرحهم ونصرهم وعزهم.

وإنا إن شاء الله نفصّل في الكلمات التالية ما نحن عليه من انحراف عن الجادة ، فليترقب ذلك القارئ الكريم، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصد: من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة الإسلامية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين