سلميتنا أقوى!!

المحاور:

- لا أجد في الدنيا كلها ديناً ولا مذهب ولا فكرة جمعت من مبادئ السلم المجتمعي والعالمي بالقدر الذي حواه الإسلام العظيم .. ليس في صورة رموز وشعارات بقدر ما فيه من وصايا وتشريعات، فهو الإسلام من السلام، وتحيته السلام، وفي التشهد السلام، وفي الجنة باب السلام لمن يسعى لتمكين السلم والسلام.

- ‏ كما أنني لا أجد في الدنيا كلها ديناً ولا مذهب ولا فكرة جمعت من مبادئ عزة النفس والكرامة والعلو ورفض الذل والهوان والضيم، بالقدر الذي حواه الإسلام العظيم .. ويكفينا هنا قول الله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).

- ‏ لو أننا نظرنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمثل النموذج الأعظم لتطبيق الإسلام فإننا نجد لديه وقفات ولمسات تؤكد صبره واحتسابه وامتناعه عن الرد على خصومه وحرصه على حقن دماء جميع الأطراف؛ فتراه يُضرب ويُشتم ويُتهم ويؤذى، بل يحاصَر ويجوّع هو ومن معه من الأتباع الكرام الذين قُتل منهم من قُتل وشُرد آخرون .. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على الدعاء لأولئك المجرمين (المعتدين) بالهداية والإيمان.

- ‏ولو نظرنا كذلك في سيرته العطرة الطيبة لوجدناه وهو المؤيد المسدد بالوحي يرفع سقف التعامل مع المعتدين عليه وعلى دينه وأصحابه؛ فتارة يجهر بدعوته متحديا جبروتهم .. وتارة يدعو عليهم بالهلاك .. وتارة يعزم على التحالف مع خصومهم ليكسر أنوفهم .. وتارة يبايع أصحابه على الرد عليهم .. وتارة يهدد تجارتهم .. وتارة يشجع على هجائهم وكسر كبريائهم .. وتارة يرفع سيفه في وجوههم ويقتل كبراءهم .. وتارة يعزم على أداء شعائر دينه وسط جموعهم وفي عقر ديارهم (عمرة الحديبية) .. وتارة يبيح لبعض أصحابه إزعاجهم (مجموعة أبي بصير) .. وتارة يوجه بعض أصحابه لاغتيال بعض كبرائهم (عملية محمد بن مسلمة في اغتيال كعب بن الاشرف وغيرها) وتارة يستثمر نقضهم للصلح معه فيغزوهم في عقر دارهم (فتح مكة).

- ‏ مما سبق يتأكد لنا أنه لكل مقام مقال .. فلا يقال بأن هنالك أسلوباً مطلق في التعامل مع المعتدين (شتى صور العدوان) .. فلا يصح أن نرفع شعار السلم المطلق أو السيف المُشهَر بشكل دائم .. لأن قولنا بالسلمية المطلقة يغري أعداءنا بمزيد من الاستباحة لنا .. وهنا نكون قد تلبّسنا بإثم شرعنة وتأصيل قتلنا وإيذائنا فضلاً عما نحن فيه من أذى وبلاء .. مثلما أن قولنا بالثورية المطلقة يفتح باب حرب شاملة تراق فيها الدماء ولا تمنحنا فرصة دعوة الآخرين وإصلاح الأحوال وإعمار الكون.

‏قد تكون السلمية أقوى من الرصاص وأشد على المعتدين من الثورية نفسها، وذلك في أحوال منها: 

1. عندما نكون صفاً واحداً متماسكا.

2. عندما نؤمن بأنها مرحلة وليست مطلقة.

3. عندما نجد أن هنالك لا تزال فرصة للتغيير السلمي أو أفقاً مفتوحاً للحل العادل والإصلاح والإنصاف للمظلومين المقهورين.

4. عندما يغلب الظن لدينا أن كلفة السلمية في الحال (والمآل) أقل من كلفة الثورية .. والكلفة مادية ومعنوية .. وليست مادية فحسب.

قد تكون الثورة والمقاومة أقوى من المسالمة والموادعة، وذلك في أحوال منها:

1. عندما نقدر أننا وصلنا إلى الدواء الأخير .. فآخر الدواء الكيّ.

2. عندما تكون مفسدة السلمية في المآل أشد من مفسدة الثورية في الحال .. فالموازنة لا شك أنها بين مفسدتين وليس بين مصلحة ومفسدة.

3. عندما تصبح السلمية بالنسبة للبعض ديناً مطلقاً لا يصح تجاوزه .. بل يقولون بأن من يرفع رأسه آثم، فيشرعنون للذل ويؤصلون للهوان.

4. عند تربص فرصة ردع مناسبة في حجمها أو توقيتها، تربك المعتدين وتؤدبهم بأثمان معقولة.

5. عند وجود خصوم مجرمين لا يفهمون سوى لغة الحراب .. ولا تصل رسائل السلمية والموادعة إليهم مطلقا .. وإن وصلت فإنهم لا يقرأونها من باب حرص الدعاة على حقن الدماء وستر الأعراض وسلامة الأوطان، بقدر ما يقرأون فيها جبننا وخورنا وعجزنا وهواننا على الناس.

- قد يملك المرء حق الرد على من اعتدى عليه، لكنه لا يرد في الساعة نفسها، لأجل مصالح يراها، كأن يمنح المعتدين فرصة أطول للتوبة والاعتذار، أو لأنه لا يرى الزمان والمكان مناسبين لهذا الرد .. لكنه يبقي خيار استعمال حق الرد حاضراً في أيّ لحظة .. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم طيلة مكثه في مكة التي آذاه أهلها .. لكنه كف يده عنهم، ولزم طاعة ربه والقول المعروف لهم .. فلما عزم الأمر وجاء الإذن من الله تعالى بالرد استخدم حقه بالرد في مكان بين مكة والمدينة (بدر) في مشهد جعل القاصي والداني يعيد حسابته عند التعامل مع دعوته وأصحابه.

- ‏ هنالك من انقلبت موازينهم وانتكست معايير الحراك لديهم؛ فتجدهم لأجل حقوقهم يثورون، ولأجل مبادئهم يسالمون، أو أنهم لأجل قضاياهم الشخصية ينتفضون، ولأجل قضايا وطنهم وأمتهم الثكلى يوادعون، ولهؤلاء أقول:

أراك على حقوقك داعشيا=وحق الله عندك هامشيا؟!

- يمكن الجمع بين السلمية والثورية من حيث الترتيب الزمني فنبدأ بالسلمية وننتهي بالثورية إن لزم الأمر ذلك .. أو من حيث توزيع المهام فمنا من يسالم ومنا من يثور والأمور تقدر بقدرها، أو من حيث المكان فقد توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن مواجهة قريش في مكة واستدرج عتاتها للمواجهة خارجها.

- ‏ يخبرنا القرآن في موازينه الربانية البعيدة عن موازيننا المادية بأن المدافعة والجهاد هو الذي يجلب السلم وليس الخنوع والذل وقبول الاستكانة، قال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)، فلا يجوز الإغراق في الحسبة المادية التي لا تزيدنا إلا وهناً على وهن. 

- ‏ إذا عجز المرء عن المدافعة والثورية فلا يجوز له تحريمهما، وليستغفر الله على عجزه ويطلب من ربه قوة الردع للمعتدين (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ..).

- ‏ إذا ملك المرء أسباب القوة فليس بالضرورة أن يستخدمها على الفور، لأن استخدام القوة والثورة ليست هدفا بذاته، وقد عرض أحد المبايعين يوم العقبة الثانية على النبي صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على قريش ميلة واحدة فنهاهم لأنه لم يحن وقت الردع بعد.

- ‏ تقدر قيادة الميدان في كل زمان ومكان ما يناسب المرحلة من خفض وتصعيد، فالأمور تقدر بقدرها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، على أن يكون قراراً مرحلياً مرناً يراعي الاحتياجات المستجدة، لا قطعياً جامداً.

- ‏ إن أمتنا اليوم تعيش مخلفات كبيرة من الكبائر، ألا وهي كبيرة التخلي عن الأخذ بأسباب تحصيل القوة بأنواعها؛ قوة الروح والفكر والمال والجسد والعلاقات والسياسة والأمن والعلم ووو وغيرها من القوى التي كلفنا الله تعالى بإعدادها .. ثم نسأل عن أسباب استضعاف المجرمين لنا!! 

وختاماً: نحن دعاة سلم وسلام ووئام .. وننبذ إراقة الدماء وهدر الأرواح .. ونصبر ونحتسب ونلعق الجراح .. بل نمارس دور أمِّ الولد في كل أرض وبلد .. ولكن لابد أن يعلم المعتدون المجرمون المستبدون أن في ديننا ما يبيح لنا بل يوجب علينا أحياناً الانتصار لديننا وأعراضنا ودمائنا وسائر حقوقنا .. وأن حلم الحليم له حدٌّ، فلا يأمن المعتدون غضبتنا وثورتنا، لاسيما إذا لم يعد لدينا شيء نخاف منه أو عليه .. أو لم يعد لدينا شيء نخسره .. وعندها يتحول الهر الوديع الأليف كما يحسبون إلى أسد هصور يذيقهم مرارة ما يمكرون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين