عادة الله تعالى مع الأمم -2-

إن من أهم المهمات أن تعرف عادة مولانا عز وجل مع الأمم إعانة وإكراماً، فإن العبرة من تلك المعرفة عظيمة وعظيمة، لم ير هذا الوجود أمَّة إلا وأرسل إليها ربنا رسولاً يعلمها عنه عز وجل ما ينبغي أن يكون منها معه تعالى ومع عباده، أخبر بذلك القرآن الكريم إذ يقول تعالى: [وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ] {فاطر:24} وكذا أخبر القرآن أنه ما أرسل رسول إلى أمَّة إلا قامت في وجهه تكذبه وتناوئه، تفعل ذلك معه رغم ما ترى من معجزات باهرات يظهرها الله تعالى على يديه، كانت رغم أهل الإنصاف منها على الايمان به واتِّباعه في كل ما يدعوها إليه، حكى القرآن هذه العادة عن الأمم في مواضع كثيرة منه، ومن ذلك قوله تعالى: [يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] {يس:30}، وأخبرنا القرآن أيضا أن ربنا - علت كلمته - كان يعامل أولئك المكذبين بالإبادة والاستئصال، جزاءً لهم على تمردهم على أنبيائهم، ومن شاء فليقرأ قوله تعالى:[ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ] {المؤمنون:44}.

ومن له عهد بكتاب ربنا لا يخفى عليه كيف أهلك تعالى من أهلك من الأمم، فقد حكى هذا الكتاب الكريم أن قوم سيدنا نوح أُغرقوا بالطوفان، وأن قوم سيدنا هود أهلكوا بريح صرصر عاتية، وأن قوم سيدنا صالح أهلكوا بصيحة طاغية، وأن قوم سيدنا شعيب أهلك بعضهم بالصيحة أيضاً، وبعضهم بالظلة أمطرتهم ناراً، وأن قوم سيدنا لوط خسف بهم وأمطروا حجارة من سجيل، وأن قوم سيدنا موسى أغرقوا في البحر، وأن أصحاب السبت مسخ بعضهم قردة ومسخ بعضهم خنازير، وأن قوم صاحب ياسين أهلكوا بالصيحة التي تركتهم خامدين، وأن أهل سبأ مزقوا كل ممزق.

فعل ذلك بهم ربنا لمّا لم يؤمنوا برسلهم، أما الرسل ومن آمن بهم فقد نجاهم ربنا لأنهم أولياؤه.

من هذا فهمنا أن من عادة ربنا إهلاك الأمم إذا تمادت على تكذيب الرسل، وتخصيص من آمن منها بالنجاة، لكن هذه النجاة المطلقة لا تكون للمؤمنين إلا وهم وراء الرسل قدماً بقدم، أما لو انحرفوا عما كلفوا به وعصوا ربهم فإن له تعالى معهم عادة بيَّنها بمفهوم قوله سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] {محمد:7} شرطت هذه الآية الكريمة في نصر الله تعالى المؤمنين على أعدائهم شرطاً هو أن ينصروه - عزّت قدرته - أي ينصروا دينه بالعمل به والدفاع عنه، وينصروا أولياءه: أي يوالوا من والاهم ويعادوا من عاداه، ومفهوم هذا الشرط أنهم إن لم ينصروه لا ينصرهم، بل يخذلهم أمام أعدائهم، ويفهم هذا المعنى واضح جداً من قوله تعالى: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا] {الإسراء:4} [[وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا(5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا(6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا(7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا(8)]. {الإسراء}. 

تضمنت هذه الآيات الكريمة خبراً إلهياً عن بني إسرائيل أنهم لابد أن ينحرفوا عن دينهم ويفسدوا في الأرض بالمعاصي مرتين، وتوعّدهم تعالى على كل مرة أن يسلط عليهم عباداً من الكفار أشداء أقوياء، ينزلون بهم من أنواع الإهانة والذل ما ينزلون حتى يصل بهم ذلك إلى أن يطأوا بأقدامهم أقدس مكان عندهم وهو بيت المقدس، يدخلونه لا دخول إجلال واحترام، بل دخول احتقار وازدراء وامتهانة، وقد نفذ تعالى ما توعدهم به لما كان منهم ذلك الانحراف المفسد في الأرض، ولكنه كان يأخذ بيدهم وينصرهم إذا أنابوا إليه واعتذروا عما فرَّط منهم، فكان يهبهم من المال والأولاد ما به يصبحون أقوى من عدوهم مالاً ورجالاً، واذن يناجزونه الحرب ويخرجونه من البلاد حقير ذليلاً، ويصبحون أحراراً فيها أعزاء ليس لغيرهم عليهم أي سلطان، ولما أفهمهم تعالى هذه العادة معهم خاطبهم بقوله تعالى:[إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا] {الإسراء:7}، أي إنَّ الإحسان والإساءة إليكم وبأيديكم فإن استقمتم كان الإحسان وظهرتم على أعدائكم وعشتم في دياركم أعزاء، وإن اعوججتم كانت الإساءة، وظهر عليكم عدوكم، ورأيتم من الذل في بلادكم ما يترككم عبيداً أذلاء في قبضة أعدائكم، وقد وعدهم تعالى بعد الإهانة الثانية أن يرحمهم بالنصر على أعدائهم، لكنه مع ذلك هددهم أنهم إن عادوا إلى انتهاك الحرمات واقتحام المعاصي، عاد هو سبحانه فسلط عليهم من عباده ما يفعلون بهم الأفاعيل، وهذا بيان ليس بعده بيان لعادته تعالى مع المؤمنين إذا حكموا على أنفسهم غير قانونه تعالى العظيم، فليعله إخواننا المؤمنون ثم ليعلموه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين