أعجوبة الدعاء: المعجزة التي رأيت (1 من 2)

ليست معجزة بالتعريف الشرعي للمعجزات، فتلك لا تكون إلا للأنبياء، ولا كرامة من الكرامات التي يختص بها الأولياء الصالحون، فلست منهم ولا من طبقتهم (وإن كنت أتمنى أن أكون). إنما هي معجزة على المجاز، أعجوبة بالمقاييس الأرضية المادية البشرية، علامة دالّة على رحمة الله وقدرته وتدبيره، آية مُبهرة رأيتها في موقف عجيب لا أنساه أو تُغمِضَ عيني يدُ الغاسل.

ولكن لماذا أبدأ المقالة من نصفها؟ سأبدأها من حيث قطعت المقالة السابقة.

-1-

قرأتم في المقالة التي مضت (سر الدعاء المستجاب) أن استجابة الدعاء أرجَى ما تكون إذا ضاقت بالمرء سُبُل الأرض ويئس من الأسباب المادية ووصل إلى اليقين الكامل بأن ما يريده لا يستطيع أن يحققه إلا الله، فأقبل عليه يدعوه بقلب منقطع عن الدنيا متصل به لا يرجو سواه. لكنه ربما دعا وكرر الدعاء بأخلص قلب وأصدق لسان في أشد المواقف يأساً ثم لم يُستجَب الدعاء، فما التفسير؟

قلت في آخر تلك المقالة: إذا وصلتَ لتلك الحالة ثم دعوتَ وثابرت على الدعاء فلم يُستجَب الدعاءُ فاعلم أن إصرار الله على عدم الإجابة رسالةٌ لك، أن الله قد سمع دعاءك وقرر أن يستجيب له بطريقته وليس بطريقتك، فيختار ما "يعلم" أنه خير لك لا ما "تظن" أنت أنه الخير. فاحمد الله في كل حال وارضَ بقضائه، وانتظر الخير الذي أعدَّه لك ولو بعد حين.

هذا هو التفسير الأول. فإن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدَه سيُحبّ أن يصرف عنه شراً دعا به على نفسه من حيث يظنّ أنه خير. وهي تجربة يعرفها أكثر الناس، وأنا نفسي مررت بها في يوم من الأيام، فإني دعوت ذات مرة وقد بلغ بي الضيق أشده، دعوت دعاء المُضطر اليائس أن يصرف الله عني أمراً لم أكن أظن أنه ينصرف، فاستُجيب دعائي غيرَ بعيد، في أسابيع معدودات، ثم أدركت -بعدُ- أنني ضحَّيت بأمر فيه نفع مخلوط بضرر، واكتشفت بعدَ فواته أنّ نفعه أكبر من ضرره وأن خيرَه يفوق شره، فتمنيت لو لم أدعُ بصرفه، فإني دعوت على نفسي من حيث لا أعلم. وما أكثرَ ما يصنع الناس ذلك بأنفسهم، ومنه قوله تعالى (على وجه): {ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير}.

هذا التفسير لعدم إجابة الدعاء معروفٌ خاضَ فيه الأولون والآخرون، فلن أقف عنده طويلاً، فاسمحوا لي أن أنتقل إلى التفسير الثاني الذي أنشأتُ هذه المقالة من أجله: إن إجابة الدعاء -عندما تبدو إجابتُه أقربَ إلى المعجزة المستحيلة- أمرٌ جليل جميل يتمناه كل إنسان، غيرَ أنه ابتلاء ثقيل ربما تمنى المرء أن يُعفَى من حمله يوم الحساب، فمن أجل ذلك قد يصرفه الله عنه رحمةً به وشفقةً عليه.

ولكنْ أليس هذا غريباً؟ كيف يكون كشف البلاء -بإجابة الدعاء- هو الابتلاء؟

-2-

فكّروا معي: هل يستوي أهلُ البَرّ الذين عاشوا غافلين عن الله وهم آمنون، لم يُبتَلوا ولم يَدْعوا ولم يُستجَب دعاؤهم، وأهلُ البحر الذين اقتربوا من الموت فابتهلوا لمولاهم بالدعاء، حتى إذا أنجاهم إلى بَرّ الأمان عادوا به كافرين، هل يستوون؟ هل يستوي الذين سمعوا بالرسالة ولم يروا آياتها فاستقبلوها بالشك والإعراض، والذين طلبوا آية محددة باسمها ورسمها، فلمّا أجيبوا إلى ما طلبوا ورأوا الآية عِياناً كفر منهم من كفر وأبى التصديق؟ هل يستوون؟

لمّا طلب أصحاب عيسى معجزة محددة أجابهم الله إلى الذي طلبوه، ولكنه حذرهم: {قال الله إني مُنَزِّلها عليكم، فمن يكفُرْ بعدُ منكم فإني أعذّبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين}. دَعُونا من صفة المائدة وطبيعة العذاب اللتين خاض فيهما أهل التفسير بغير دليل، فما يهمنا الآن هو العبرة التي سيقت هذه القصة من أجلها (كما هو الشأن في قصص القرآن كلها). لقد أجاب الله الطلب وأرسل الآية لطالبيها (على الصحيح) ولكنه وجّهَ إليهم قبل إرسالها "إنذاراً شديد اللهجة"، فعلمنا أن أشد الناس مناقَشةً في الحساب وشدّةً في العقاب والعذاب هو الذي طلب الآية فأوتيها ثم أعرض عنها. هذه هي خلاصة القصة، وهي العبرة منها بعيداً عن الفروع والتفاصيل.

وإجابة الدعاء المستحيل آية، هي "آية شخصية" يحصل عليها مَن طلب من الله تحقيق دعاء هو أقرب إلى الاستحالة، تماماً كالآية العامة التي حصل عليها الحواريون. وقد كانت إجابة طلب الحواريين ابتلاء ثقيلاً كما رأينا، ألا ترى إذن -يا من تدعو الله في حالة اليأس وتسأله تحقيق الأمر المستحيل- أن المولى الكريم ربما أشفق عليك فاختار أن لا يبتليك بإجابة دعائك، لكي لا يحمّلك هذا الحمل الثقيل فيضاعف عليك الحساب يوم الحساب ويضاعف لك العقاب لو استحق عليك العقاب؟

-3-

سأروي لكم حكاية قصيرة. ذهبنا مرة في نزهة إلى الشاطئ، وشاطئ البحر الأحمر في جدّة (حيث أعيش) ضحل يمشي فيه الماشي مسافة فلا يجاوز ركبتَيه، فدخل فيه الأولاد يخوضون في الماء، ومعهم ابني الشاب وزوجته، وكانت عروساً جديدة، فلما كان الليل افتقدَت خاتم زواجها ولم تجده في يدها، فعلمَت أنه سقط من يدها في الماء. فبحثت وبحث معها كل من حضر، ولكن بلا طائل، وأنَّى يجدونه وقد غيّبَه ظلامان، ظلام الليل وظلام الماء؟

فلما رجعنا أسِفَت عليه أسفاً هائلاً لم أرَها أسفت مثلَه على شيء قبلَه، ورأيت حالها فقلت لها: لعلك إذا رجعت غداً في النهار وبحثتِ عنه وجدتِه. قالت وقال الآخرون: لا سبيل، هذا بحر يتحرك رملُه إذا جاء المدّ فيبتلع الأجسام الكبيرة، فكيف بالدقيقة الصغيرة؟ وليس ثمة نقطة واحدة نبحث فيها، بل هي مساحة عريضة واسعة. قلت: صحيح، الأمل في العثور عليه معدوم بالمقاييس المادية الأرضية، وهذا يجعل الأمل كبيراً بالعثور عليه من الطريق الآخر، من طريق السماء. ثم قلت لابنتي الغالية (وزوجات أبنائي هنّ بناتي من حيث لم يهبني الله البنات): لن تعثري عليه إلا بقدرة خارقة، قدرة من غير عالم البشر، فتوجهي إلى الله هذه الليلة بدعاء اليائس الذي يعلم أنه لا أمل له إلا بالله، ثم إذا أصبح الصباح عودوا إلى تلك البقعة فابحثوا، وسوف تجدينه بإذن الله.

صنعَت ذلك، دعت ودعوتُ معها، ورجعوا في ضوء النهار فخاضت في الماء تحدّق إلى الرمل وهي أقرب إلى اليأس، ثم أخذ عينَها بريقٌ انعكس من جسم معدني صغير، مَدَّت يدها فإذا فيها الخاتم، كأنما غرزَته في الرمل يدٌ فانتظرَها حتى ترجع فتأخذه من مَغْرَزه! عجبَت وعجب الجميع، ولم أعجب، فما ظننتُ أن الله يخذلها بعدما بلغ بها اليأس من نفسها ومن الناس ودنيا الناس غايتَه، ولو ظنَّت أنها تجده بقدرتها أو بقدرة أحد من الناس لضَعُفَ اعتمادها على الدعاء ولو مثقال ذرة، وعندئذ فإنها لن تجده أبداً.

*   *   *

لقد استجاب الله دعاءها المستحيل، ولكن أكانت الاستجابة منحة خالصة أم كانت أقربَ إلى الامتحان؟ ألن يطالبها الله بأن لا يرتعشَ قلبُها بشكّ ولا تتقاعسَ جوارحُها عن طاعةٍ بعد اليوم؟

في ذلك الصباح رجع الخاتم المفقود، وفيه حمل هذان الشابان حِملاً ثقيلاً سينوء بهما إلى آخر العمر: لقد أراهما الله قدرته ورحمته، وصارا ملزمَين -منذ ذلك اليوم- بحصة مضاعفة من الوفاء ورَدّ الجميل. أمّا أنا فكان ما رأيته ذات يوم أغربَ وأعجب وأكثر إعجازاً، وكان امتحاني أثقل بكثير. القصة في الحلقة الآتية بمشيئة الله.

*   *   *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين