هل تَبِيض اللَّبْوة؟

قالوا: من المثل السائر هنا أن الرئيس على الحق دائمًا، ومصيب إصابة مطلقة، إننا نواجه في أعمالنا ووظائفنا هذه المعضلة بين حين لآخر، بل بصورة مستمرة، فالمدراء متغطرسون ومترفعون يصدرون أوامر متسمة بالرعونة والغباء، والسخافة والهراء، غير ماتَّة إلى العقل والفطنة بصلة، وإلى السداد والحكمة بوشيجة، ولا بد لنا من إطاعتهم وتنفيذ أوامرهم شئنا أم أبينا، ورضينا أم سخطنا.

قلت: يصدق عليهم مثل اللبوة.

قالوا: وكيف كان ذلك؟

قلت: زعموا أن سكان قرية نائية من أرض بنجاب استثاروا فيما خاضوا فيه من سمرهم سؤالا غريبا جرَّهم إلى تباين في الرأي وتنازع: كيف تلد اللبوة (أنثى الأسد)؟ تحمل ثم تضع، أم تبيض، وتفرخ؟ وانقسم الناس فرقتين، فرقة ترى أنها تحمل ثم تمخض وتلد، وأخرى تلح على أنها تبيض، ثم تحضن على بيضها فتفقسها عن أفراخها، واحتد الأمر بينهم احتدادا كادوا أن يقتتلوا، فجاء عمدة القرية، وسألهم عما يختصمون؟ قالوا: تخالفنا: أتحمل أنثى الأسد أم تبيض؟ قال: إنكم حمقى جاهلون، ألم تعلموا أن الأسد ملك الغابة؟ تحمل أنثاه إذا شاء، وتبيض إذا شاء.

قلت: إن الاستكبار إذا استحكم هبط بصاحبه إلى خرق وبلاهة، والعنجهية إذا رسخت في النفس أدت إلى خبل وتفاهة، بل قلما يتبين الصلف والغرور من العته والجنون، لا تستغربوا ما يفعله مدراؤكم، فقد يشاركهم فيه أصناف من البشر وطبقات من الناس، يجمع بينها الاستكبار والغرور، ومن نكد الدنيا على الأحرار الأشراف أن يبتلوا بأمثال هؤلاء اللئام الأنذال والسافلين الأوغال، إن الكريم إذا رأى ذا خسة صدف المودة عنه صدف الطارد، وما أشقى وما أتعس من تبعهم فضل وغوى، وخفيت عليه معالم الرشد والهدى.

قالوا: اضرب لنا أمثلة منهم.

قلت: منهم الذي آتاه الله الملك فحاج إبراهيم في ربه، قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، أجهل به بمعنى الإحياء والإماتة وأغفل به، فشرح إبراهيم جهله وغفلته بمثال، وهو أن الحياة لها مقومات، منها الشمس، يأتي بها الله من المشرق، فسأله أن يأتي بها من المغرب، وإذ لم يقدر على الشمس، فهو عن الإحياء والإماتة أضعف، وعن شيء من معنى الربوبية أعجز.

ومنهم فرعون ظن بما ورثه من وسائل مصر ومصادرها أنه يتملكها ويتسلط عليها نافذة فيها أوامره مستسلمة له خاضعة، وأن أرض مصر وأنهارها مطيعة له خاشعة، وقال: "وهذه الأنهار تجري من تحتي"، وقال: "أنا ربكم الأعلى"، وقال: "ما علمت لكم من إله غيري"، فابتلاه الله بتسع آيات بينات عجز عن مدافعتها، وأخيرا أغرقه في ماء من مياه مصر التي زعم سيطرته عليها وقهره لها.

وكذلك قارون آتاه الله من المال ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وقال: إنما أوتيته على علم عندي، فخسف الله وبداره الأرض، فهؤلاء في حكم الموتى أماتهم من قبل موتهم الجهل، وادعوا دعاوي وما لهم عقل، غرهم من الله الحلم برهة، وفي الحلم ما يعلي وفي الحلم ما يردي، تتنكر لهم فروعهم، ويتبرأ منهم آباؤهم كأن ليس لهم أصل، بهم خبل من الهوى لم يزجر سفاهتهم حلم، ولم يتدارك غيهم رشد، مترادفة عليهم حرقات بعدها جدد.

قالوا: بيِّن لنا أصل ضلال هؤلاء بيانا جليا.

قلت: إن الله آتى الناس قدرة محدودة وعلما محدودا، وكذلك سائر الوسائل، فقد جعل الله لها حدا، فأخطأوا فهمها كافرين بواهبها، وزعموا تملكهم إياها ناسين حدودهم، وهذا هو أصل ضلال المستكبرين، متفرعا عنه أمران، كل واحد منهما شر من الآخر.

قالوا: ما هما؟ 

قلت:

الأول: الاستغناء والطغيان، إن الإنسان إذا أوتي قوة، أو علما، أو مالا فسرعان ما يتخطى حده، ويطغى أن رآه استغنى، ويظن أنه هو الذي يتحكم في نواميس الحياة وسنن الكون، قال: "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"، قال الطبري في تفسيره: يقول تعالى ذكره: ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان أن ينعم عليه ربه بتسويته خلقه، وبتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفؤ له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك، ويطغى عليه أن رآه استغنى. اهـ.

وما أبلغ رد ربنا على هؤلاء: "أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة".

والثاني: توهمهم ظالمين جاهلين أن قولهم يخلق الحقائق، وهو غاية السفه وأقصى البلادة، إن القول الذي يخلق وينشئ هو قول الله عز وجل وحده، "إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" (سورة البقرة 117)، و"إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" (سورة النحل 40)، و"إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" (سورة يس 82)، وغيره لا يخلق شيئا بقوله، بل قوله ليس إلا تعبيرا عن الأشياء والأمور، قد يكون صادقا فيه وقد يكون كاذبا.

قالوا: فما توصينا؟

قلت: أوصيكم ونفسي أن نسعى لمعرفة ربنا، وندرك حدود علمنا وقدرتنا، ونستيقن عجزنا وضعفنا، ونشكره شكرين: شكرا على النعم والندى، وشكرا على الشكر الذي إليه هدى، ونعترف بعيِّنا عن ثنائه وحمده، مولى لم يحص أحد عدة ما أولاه من معروف، وسيد النيل ما لم يحصه العدد، وهو ذو الفضل والمن، خلقنا فسوانا فيمن خلق وسوى، وكم من بلايا نازلات بغيرنا فسلمنا منها وعافى، فله الشكر الأوفى والثناء الأسمى، والحمد الأزكى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين