التوريث المثمر

التوريث سنة نبوية وضرورة بشرية لامتداد اثر الإنسان في الحياة وإنك لتتألم اشد الألم حين تجد عالمًا او سياسيًا او تاجرًا او اداريًا او مربيًا بعد سنوات طويلة لم يخلف بعده أحدًا يورثه فيما يحسن وليس ثمة خط ثان يديم الأثر لينتهي اسمه أو مؤسسته بموته أو غيابه لسبب من الأسباب

ولنا مع التوريث هنا وقفات:

الأولى:

إن التوريث يقع في كل شيء في العلم والأفكار والسلوكيات والمهارات والخبرات والإمكانات سواء في السياسة أو العلم أو الدعوة أو المال أو العلاقات ولا يقتصر على نوع واحد ومسار واحد

الثانية:

مع ان كل توريث يحتاج إلى جهد لكن الجهد الأكبر والمهمة الأعظم تكون في توريث الأفكار والسلوكيات فهما الأكثر أثرًا على المدى القريب والبعيد وهما الأصعب من حيث آليات التوريث لاحتياجهما -أعني الفكر والسلوك- الى عملية إقناع حقيقية للوارث بالقول والفعل معا وتكوين القدوة هنا يصبح المفتاح الرئيس لعملية التوريث وإلا كانت جهدا ضائعًا.

يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عملهُ إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".

والعلم الذي ينتفع به هو ما أشرنا اليه بمصطلح الأفكار، والولد الصالح هو ما أشرنا اليه بمصطح السلوك، وأما الصدقة الجارية فهذه في العادة أيسر عند المسلم حيث لا تحتاج إلا إلى قرار سريع بايقاف شيء من ماله يضمن استمرار الأجر.

وفي حديث: " العلماء ورثة الأنبياء" يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوراثة الحقيقية للنبوة والورثة المحظوظون من الأنبياء، وهي وراثة العلم والعمل فالعلم هنا لا يقصد به مجموع الأفكار والمعلومات من العلم الشرعي بل مجموع العلم والسلوك فالأنبياء ليسوا علماء فقط بل هم الأسوة والقدوة الحسنة وهم أصحاب التربية والسلوك والخلق العظيم.

الثالثة:

إن من اكبر مشكلات التوريث هو حب استنساخ المورّث لوارثه في كل شيء في الكليات والجزئيات بحيث يكون مثله بالتمام والكمال دون إدراك لطبيعة الاختلافات والفروق على مستوى الشخصية والزمان والمكان والأدوات والإمكانات فيريد أن تكون الطرائق والأساليب والوسائل ذاتها هي التي تسود وتعرف وتنفذ في حين أن المورّثين العظماء هم الذي يورّثون الأسس والكليات والمنهجيات وليس الوسائل والتفاصيل والجزئيات.

فلنتخيل أن تاجرًا ورّث بنيه مالا دون توريث قواعد التجارة وأصول تعاملات السوق فماذا سيكون مآله وعاقبته؟

كذلك المفكرون والعلماء والمربون إذا حرصوا على توريث التفاصيل دون توريث طرائق التفكير ومنهجيات التعامل مع الفكر والعلم والسلوك والتربية فإنهم حكموا على الورثة ابتداء بالجمود والتكلس وعدم الفاعلية.

الرابعة:

حين ننظر إلى أمثلة التوريث فإننا نجد:

_ في السياسة لا يعلم النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم أصحابه طريقة في اختيار الحاكم سوى مبدأ الشورى فيختار أبو بكر في برلمان السقيفة العاجل، ويرشح عمر ويوافق عليه الناس، وينتخب عثمان عبر مجلس مصغر، ويبايع علي كأمير أزمة ضروري رضي الله عن الجميع.

_ وفي العلم نرى ابن حنبل تلميذ الشافعي، والشافعي تلميذ مالك، ولكل واحد من الثلاثة طريقته ومذهبه ومدرسته دون تثريب ولا اعتراض من الشيخ لتلميذه ومن المورّث للوارث

ومدرسة أبي حنيفة وصاحبيه أمر عجاب في صناعة العالم الوارث حيث يسمح الشيخ بالحوار والمناقشة لأنه كان يريد صناعة مجتهدين لا مقلدين.

وفي الدعوة وامتدادها رأينا أن من أكبر عوامل البقاء والاستمرار هو في الثبات على الأهداف الدعوية والابتكار المستمر لوسائلها وآلياتها بما يناسب الظرف والبيئة وإلا سيكون كمن يخاطب نفسه لا غيره!!!!!

وفي التربية رأينا أن القاعدة التربوية التي تقول: "ربوا اولادكم غير تربيتكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" هي القاعدة المثمرة التي تفرز التربية التي تواكب المتغيرات دون مساس بالثوابت

الخلاصة:

التوريث ضامن للاستمرار وامتداد للأجر والأثر وأعظم التوريث ما كان في علم أو سلوك والتوريث المثمر يكون في توريث الأسس والمنهجيات لا التفاصيل والجزئيات.

أدام الله خيركم وذكركم وأثركم....

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين