هلكَ فيه محبٌ غالٍ، ومبغضٌ قال

 

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الآية/ 49

 

تأملْ سببَ كفرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بعيسى عليه السلام، وهو داء الأمم العضال، وآفة الخلق الفتاكة، وقلّ من يفطن له، إنه الهوى، وثنٌ قابعٌ في دهاليز النفوس.

ويرجع ذلك الداء العضال إلى أمرين لا ثالث لهما، غلو في الحب، وغلو في البغض، وبهما انقسم بنو إِسْرَائِيلَ في عيسى عليه السلام إلى فريقين: محبٍ غالٍ، ومبغضٍ قالٍ.

فحمل الغلو في الحبِ طائفةً على الإطراء والتأليه، وحمل الغلو في البغضِ طائفةً على الإعراضِ والتكذيبِ، ولكلا الفريقين أتى تحذير الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}. سُورَةُ النِّسَاءِ: الآية/ 171

وتأمل كيف تبرأ عيسى عليه السلام من حوله وقوته، ونسب ما أتى به من معجزاتٍ لله تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، فالآيةُ من الله، وهو رسول الله.

ثم تأمل كيف أَكَدَّ ذلك عند خلق الطَّيْرِ: {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}.

ثم كرّر عليهم ذلك عند إحياء الموتى؛ : {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}، ليدلل لهم أن كل آيَةٍ يحتاج لها إلى إذنٍ خاصٍ، وأنَّ الخلقَ والإِحياءَ، وإِبراءَ الأكمَهِ والأبرصِ كل ذلك متوقفٌ على إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وبل عند كلِ آيَةٍ.

ولم ينسبْ يومًا شيئًا من ذلك لنفسه، ومع تبيينه لمعالم رسالته، وإيضاحه للعلة من معجزاته، وهي دعوتهم للإيمان؛ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

ومع ذلك تعامي اليهود عن معجزاته، وتصامموا على بيانه وإيضاحه، وتغافلوا عن رسالته ودعوته؛ فرموه بأقذع السباب، وسعوا إلى قتله بكل سبيل، فنجاه الله منهم؛ {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، وأهلكهم الله ببغضهم وكفرهم وعنادهم.

وتغافل النصارى عن رسالته، وعموا وصموا عن بيانه وإيضاحه، فخلعوا عليه صفات الرب، وضلوا في حقيقته ضلالًا بعيدًا، فأهلكهم الله تعالى بغلوهم وضلالهم.

وصدقَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ}. سورة يُونُسَ: الآية/ 96، 97

اللهُمَّ اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين