رجعتْ سوانحُ الفكرِ خائبةً حسيرةً

 

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الآية/ 47 

تأمل قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، لتعلم أن قدرة الله تعالى لا منتهى لها، وأن حكمة الله تعالى لا تحيط بها عقول الخلق.

{اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، عبارة تلخص لك هذا التنوع الهائل من المخلوقات التي تراها، منها الصغير الذي تناهى صغرهُ فلا يرى بالعين المجردة، ومنها الكبير الذي لا يحيط به بصرك، ويروعك كبره، وتهولك عظمته، ومنها ما لا نرى فيه إلا النفعَ، ومنها ما لا نرى فيه نفعًا، ومنها ما ينفع تارةً ويضر أخرى، فإذا بحثت عن الحكمة في وجودِ كثيرِ منها أعياك الجوابُ، ورجعت إليك سوانحُ الفكرِ خائبةً حسيرةً، وما ذلك إلا لضَعْفِ أفهَامِنَا، وتقاصرِ عقولِنَا، وقلة علومنا. 

ومنها ما يطير في الهواء؛ {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}. سُورَةُ الْمُلْكِ: الآية/ 19

وفيها من دلائل قدرةِ اللهِ ما يدهش الألباب، ويذهل العقول، ولكنها الغفلة التي تحول بيننا وبين التفكر في عظيم صنع الله تعالى؛ {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}. سُورَةُ يُوسُفَ: الآية/ 105

ومنها ما يسبح في الماء، وما يخفى علينا من مخلوقات البحار أضعاف أضعاف ما نعلمه.

ومنها ما يدبُّ على الأرض دبيبًا، وتحت كل جنسٍ أنواعٌ لا يحصيها إلا الذي خلقها؛ {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. سُورَةُ النُّورِ: الآية/ 45

ومنها ما لا علم لأحدٍ من البشر به؛ قَالَ تَعَالَى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. سُورَةُ النَّحْلِ الآية/ 8

ثم تأملْ حكمةَ الله تعالى التي لا تحيط بها العقول في ابتلاء بعض خلقه، فهذا أعمى، وهذا أبكم، وهذا أصم، وهذا ولد بداء عضال، وهذا ولد بعضو زائد، لو أنك رجعت إلى عقلك، وثاب إليك رشدك، لقلت من فورك: {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، ولا يخلو شيء من خلق الله تعالى من حِكَمٍ تتقاصرُ عنها العقولُ، وتضلُّ في دروبها أفهامُ الفحولِ، فكم لله من شاكرٍ على المعافاةِ، وكم للهِ من صابرٍ على البلاءِ، وكم من داعٍ لكشف الضُّرِّ ورفعِ البلاءِ، وكم من راجٍ لرحمةِ ربِ الأرضِ والسماءِ.

اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين