قوانين الفاعلية والتأثير 

المحاور:

- أدرك الناس زماناً كان للكلمة المكتوبة أو المسموعة فيه أثرها ووقعها على النفس؛ فكانت الدموع تنسكب، والقلوب تتحرق، والجوارح تتحرك؛ امتثالاً للخير والحق: (إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً) .. حتى بلغ التفاعل مبلغاً كبيراً عند إخواننا المهتدين الجدد: (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق).

- ‏وصل الأمر بنا اليوم إلى حالة من الجمود والجفاف أو الجفاء والتبلد؛ لدرجة أننا نرى ونسمع ما يدمي القلوب من سفك للدماء، وهتك للأعراض، واستباحة للمقدسات، ونهب للثروات والمقدرات، واعتداء وظلم وقهر وبطش، واعتقال للأشراف والنبلاء .. ويكتب من يكتب ويخطب من يخطب مستثيراً عزيمتنا .. ومحركاً مواتنا .. ولكن يصدق في بعضنا قول الله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) .. ويصدق في آخرين قول الشاعر:

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً=ولكن لا حياة لمن تنادي

وناراً لو نفخت بها أضاءت=ولكن أنت تنفخ في الرماد

- بلغ الأمر مبلغاً سلبياً لدى بعض الدعاة والخطباء والوعاظ لدرجة أنهم بعد كل خطبة وموعظة ودرس يفكرون في الصوم عن الكلام يأساً وقهراً: (فلن أكلم اليوم إنسيا)، لشدة ما يعانون من ردود أفعال سلبية يرونها كتغذية راجعة من الناس .. فبين غائب عن وعيه، وبين نائم، وبين فاتح العينين مشغول القلب والفكر، وبين عابث بنفسه أو بغيره، وبين متلفت للساعة يريد إنتهاء الخطبة والدرس قبل بدئه.

- ‏ كان الناس يعدون عدم التفاعل مع الوعظ والتوجيه من علامات النفاق .. فالمنافقون كانوا يجلسون في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم .. يسمعون أزكى وأنفع الكلمات .. فإذا خرجوا من عنده قالوا لبعضهم: (ماذا قال آنفاً) فأي حرمان أعظم من هذا الحرمان؟!.

- ‏ عند كل خطبة وموعظة ودرس تدار دائرة التلاوم بين الخطيب والواعظ من جهة وبين الجمهور والحضور من جهة أخرى .. فهم يتهمونه بضعف الأسلوب وهو يتهمهم بقسوة القلوب .. والصحيح أن القلب المنشرح لا يعنيه الأسلوب في شيء .. فهو ينتفع من الطير الطائر والطفل المتلعثم والشيخ الهرم ولغة الصم والبكم .. وإن كان للأسلوب دوره في تمام التبليغ .. ولأجل ذلك كلف الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالمبين من البلاغ: (وما على الرسول إلا البلاغ المبين).

- ‏ كلنا يمارس الخطابة والكتابة والوعظ والتربية .. وإن لم يكن لدينا كلنا منابر رسمية .. فقنوات التواصل المباشر وغير المباشر بيننا وبين أصدقائنا وأهلنا ومن حولنا كلها منابر؛ فالأب يعظ ابنه والعكس: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه ..)، والرجل يعظ زوجته والعكس: (فعظوهن ..)، والقائد أو الزعيم يعظ قومه والعكس: (إنما أعظكم بواحدة)، والمعلم يعظ طلابه والعكس، فالدين النصيحة .. والنصيحة موعظة مليحة؛ لله والكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. 

- ‏ ليس الحديث هنا عن الكلمات المسموعة والمقروءة فحسب بل عن المواقف والأفعال التي تشهد لأصحابها وتؤثر فيمن حولهم ومن بعدهم. 

‏بالاستقراء والمتابعة ثبت أن هنالك قواعد،وأصول، بل قوانين راسخة للتأثير وتحقيق الفاعلية لدى الآخرين لما نكتب ونقول ونفعل .. وأقصد بالفاعلية؛ تلك الشحنة الدافقة التي تحمل السامعين أو القارئين والمتابعين لنا ينتقون أطيب الكلام والمواقف .. ويترجمونها مباشرة إلى عمل؛ فهم يتحولون من دائرة الإدراك إلى دائرة الحراك دون تريث ولا تلكؤ ولا إرجاء .. وفيهم يصدق قول الله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه). 

ومن تلك القواعد والقوانين:

1. التأثر قبل التأثير، والتعلم قبل أن التكلم .. حتى لا يكون وعظك مما يحتاج إلى وعظ.

2. كن مخلصاً صادقاً .. لتربح قبول خالق وخالقهم وإن خسرت بعض إجابتهم.

3. كن محباً مشفقاً .. لتكسب قلوبهم وإن تأخرت عنك عقولهم.

4. كن حسن الإصغاء لتكون حسن الإلقاء .. فالناس تحب من يسمعهم قبل أن يُسمعهم.

5. تأكد من فتح أجهزة استقبالهم، قبل أن ترسل لهم رسالتك الواضحة، من جهاز إرسالك الفاعل.

6. تحدث بلغة يفهمونها .. لا بسلاسة العبارات فحسب؛ بل بانتقاء مفردات (مشروعة) يتداولونها.

7. تناول شيئاً من آلامهم، وارسم لهم طريق تحقيق آمالهم.

8. برهن لهم على استطاعتهم وقدرتهم؛ إن توفرت إرادتهم وعزيمتهم .. بضرب أمثلة من نجاحاتهم ونجاحات أمثالهم.

9. كن قدوة وأنموذجاً في التعفف عن الحرام والشجاعة عند كل مقام؛ ليكون وعظك بالفعال لا بمجرد الكلام.

10. كن مداعباً بساماً متفائلاً .. لتكسر ما بينك وبينهم من حواجز وركام.

11 كن مبدعاً في ضرب الأمثلة والمقايسات واستحضار الشواهد والقصص المناسبة .. لتكون مقنعاً بالدليل والحجة والبرهان.

12. كن عميقاً حكيماً تعالج الأمراض لا الأعراض .. ولا تشغلك الأعراض عن الأمراض.

13. كن بعيد النظر واسع الخيال، في التحصين من علل قادمة .. وأنت تتعامل مع علل قائمة.

14. تذكر أن قيمة (تعظيم الله) هي أمُّ القيم، وبلوغها يعني بلوع أعلى القمم .. فاحرص على زرعها بذكاء في كل خطبة وموعظة وبيان وتغريدة وموقف.

15. تأكد أن مواقفك وكلماتك (الطيبة) تؤتي أكلها (كل) حين .. وإن رأيت (بعض) ثمراتها (بعد) حين .. بإذن ربها.

16. كن مراوحاً بين التطويل والتوسط والاختيار والاختزال .. ولكل مقام مقال .. ففي التغريدة والبوست اختزال .. وفي الخطبة والموعظة اختصار .. وفي الدرس والمقال توسط .. وفي التدريب والتأليف تطويل. 

17. كن حريصاً على إجابة أسئلة الناس في زمانك ومكانك .. واعياً لما يدور من شبهات في خلد من يتابعك. 

18. لا تكن مصادماً ولا منبطحاً عند طرح ما تراه صواباً، في مقابل ما يراه الآخرون صوابا. 

19. كن شاكراً مادحاً كل جميل تسمع به أو تراه .. مثلما أنك تعترض وتعتب على كل قبيح تسمع به أو تراه.

20. كن جريئاً في الاعتذار عن خطئك، بقدر جرأتك في الصدع بصوابك.

21. كن مطمئناً على رزقك وحياتك .. لينشرح صدرك وينطلق لسانك .. فلن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها.

22. كن شغوفاً بالبحث عن كل جديد مفيد .. ليرى مَن حولك أنك متجدد تسعى للإبداع (النافع) وتكره التقليد.

23. كن حريصاً على نسبة الفضل لأهله، وردّ المعلومة أو الخبرة والفكرة لأصحابها .. وفي ذلك تمكين لقيمة الاحترام، وقيمة الشكر بأسلوب تلقائي لطيف. 

24. كن نظيفاً مرتباً دقيقاً منضبطاً .. ليأخذ الناس عنك السمت .. وتحملهم على تلك العادات الطيبة بصمت.

25. كن متسامحاً كريماً .. تنسى ما فات من زلات .. وتحفظ للطيبين الحسنات.

26. كن مراعياً للفروق الفردية بين الناس .. بل بين الواحد منهم .. فالمرء الواحد تختلف استجاباته باختلاف ظروفه وأحواله.

27. كن صبوراً .. متدرجاً .. فما فسد في دهر (قد) لا يصلحه عمل يوم ولا أسبوع ولا شهر.

28. كن جمعيَّ الخطى مع جموع (الطيبين) .. فرديَّ السبق لهم في أشرف الميادين .. (لا تكلَّفُ إلا نفسك وحرض المؤمنين).

29. كن حريصاً على اختيار الأحسن من بين الحسن من الأقوال والأفعال .. وهذا يقتضي منك التريث والاستخارة وعدم الاستعجال.

30. كن سخياً كريماً تعطي من مالك ووقتك وجهدك .. فالعين تأكل، والبطن يأكل، والعقل يأكل .. والنفس تقنع بعد أن تشبع. 

31. كن حذراً من الاستفزاز الذي يفقدك توازنك .. ويخرج أسوأ ما فيك ويحرجك.

32. كن حريصاً على نقل المنهجية والأسلوب، أكثر من حرصك على نقل المعلومة والمعرفة .. ليتخرج من بين يديك للأمة معلِّمين مبلِّغين .. لا مجرد حافظين أو حتى فاهمين.

33. كن حريصاً على (إتقان) ما استطعت من اللغات (لغة الجسد ولغة الإشارة ولغة الأقوياء ولغة الأدوات والقنوات والتقنيات الحديثة) .. لأن اللغة هي مفتاح البيان والتبيين. 

وختاماً:

تبقى النصائح مجرد كلمات .. ما لم يتمثلها أصحاب العزائم في شتى المجالات .. والمعوَّل في تحقيق ذلك كله على الله تعالى، فهو وحده من نعبده ونستعين به في عبادتنا ودعوتنا وتربيتنا وسائر اجتهاداتنا .. وإلا فإنه:

إذا لم يكن عون من الله للفتى=فأول ما يجني عليه اجتهاده

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين