مقدمة النهضة الاصلاحية

 

يا بديع الأرض والسموات ، على غير مثال ، أنت وحدك بارئ الكائنات ، في ثوب كمال ، يا من لا نعمة على موجود ، إلا وهي من فيض نداء ، أنت يا مولاي رب هذا الوجود ، من أدناه لأعلاه ، يا من لا يكون حادث ولا كان ، صغير هذا الحالات أو كبير ، إلا أنت محدثه بلا أعوان ، ولا مستشار ولا وز?ر ، يا من لا تحدث حركة أو سكون ، في ليل ولا في نهار ، إلا وأنت تعلمها قبل أن تكون ، فإنك العليم القهار ، يا من لا كمال العظيم ، مهما عظم هذا الكمال ، إلا وهو من آثار كمالك الباقي القديم ، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال ، يامن لا يصدر شيئاً من الأفعال ، إلا الفائق من الحكم ، يظهر بعض ذلك للبصير المفضال ، وقد يدق عن بصر الفيصل الحكم ، يا من أرسل الرسل بشرائعه النورانية ، وألزم الناس أن يؤمنوا بالجميع ، فن أطاع أسعدته السعادة الأبدية ، والا شقي لأنه غير مطيع .

أحمدك يا مولاي حمد الصادقين ، لأنك المنعم بكل الآلاء ، وأشهد أنك رب العالمين ، لأنك وحدك الخلاق لما تشاء .

يا رب صل وسلم أبداً ، على حضرة رحمتك الشاملة ، وعلى حضرات إخوانه الرسل سرمداً ، فإنهم بين عبادك القوى العاملة ، وتفضل بذلك على أتباعهم المؤمنين ، فإنهم بركة هذا الوجود ، وخصّ من بينهم ينابيع مالك من جود.

أما بعد : فليس يخفى على ذي بصر ما صار إليه جماعة المسلمين في هذه الأزمان ، فقد غدوا والله شماتة العدو وحزن الصديق ، إن نظرت إليهم في عملهم للدنيا رأيت ذوي خمول وإفلاس ، ولم ذلك : لأنهم في نوم يغطون غطيطاً ، وغيرهم في يقظة ونشاط كان لهما من الأثر ما يرقص له الدهر طرباً ، وتتيه له الدنيا بحق ، و يستطيع الوجود أن يقسم أنه في دهشة من ضخامته ، والنتيجة الطبيعية لك مانحن عليه الآن من ذلة كاملة ، وعبودية خالصة ، و ملك مطلق بأيدي أولئك الناس ، ليس ذلك في جهة واحدة من جهات الدنيا ، بل في جميع الجهات ، لا تذهب إلى الشرق أو المغرب ، أو الشمال أو الجنوب إلا وتجد الأمر فينا كما أقول لك.

وجدير - والله - بذلك من ينام وغيره في يقظة ، أو يكن وسواء في حركة ، أو يلعب ومن عداء في جدّ، أو يتساهل وغيره في احتراس.

هذا حالنا الدنيوي . أما حالنا الأخروي فيفتت الأكباد ، ويذيب القلوب ، ذلك أنك ترانا نعمل فتجزم أن الإسلام لغيرنا أنزل ، و به غيرنا عُني ، لما أن وصاياه في ناحية ، وأعمالنا في ناحية أخرى ، يحرّم : فتقتحم ما حرم غير مكترثين بهذا الاقتحام ، وبوجب : فتترك ما أوجب ، ولا ندم على هذا الترك ,

ليس ذلك في باب واحد من أبوابه - لو كان هذا لخفّ الأمر - بل في كل الأبواب حتى والله في بابي الإيمان والكفر ، فكم رأينا مؤمنين بارحوا الإيمان - وهو الذي به سعادة الدنيا والآخرة - وسارعوا إلى اعتناق الكفر ، وهو الذي فيه شقاء الدارين ، يتبرعون بذلك تبرعاً بلا جبر ولا قاهر ، رأى ذلك أعداؤنا منا فطمعوا فينا إلى حدّ أن رمونا بدعاة منهم في منتهى الجرأة ، لا يتركون باباً من أبواب ردتنا إلا ولجوه و لجّوا فيه على مرأى منا ذلك ومسمع دون أن يحسبوا لنا أي حساب ، وهل بحسب السيد لعبده المملوك أدنى حساب ، إن ذلك ليس بمفهوم ، وإن شئت أن تتحقق مبالغ استهانتنا بأوامر ديننا ونواهيه ، فازم ببصرك بيننا . وانظر ماذا نفعل حتى في خاصة أنفسنا من معاملات بيننا وبين بعضنا وعبادات بيننا وبين ربنا ، إنك والله لو سمعت لي ليئست كل اليأس ، ونفضت يديك منا وأصبحت وليس عندك أدنى شك في أنا بعد قليل من الزمن لا يبقي منا أثر ولا عين ، نعم والله إن من هذا حاله في دينه ودنياه تحكم البداهة عليه بأن حياته ليست حياة استقرار أبدا ، وهو حكم تطيش له العقول ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .

تمثل هذا الذي شرحته أمام عيني ، أراه كل لحظة من لحظات حياتي العلمية ، فكان يأخذني المؤلم القلق بل المبرح من الأسى والأسف على ديني و على إخواني في هذا الدين ، وكنت لا أجد حيلة - لدفع الحرج - إلا أن أتناول القلم وأكتب ما أكتب أصيح بأهل الايمان أن استيقظوا أيها الناس من نومكم هذا الذي طال - وغفلتكم هذه التي أحاطت -

وائتفوا من ذلكم هذا الذي أصبح لا يطاوله ذل ولا يدانيه - واستحيوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وجعلكم خبر الأمم - وأقلعوا عمَّا أنتم عليه من خروج على دينكم بلا أقلَّ حياء ، وما إلى ذلك من المنبهات الإسلامية ، إن هذا هو الذي كنت ولا أزال أملكه لا أملك غيره ، فمن حين لآخر كان يقوم بي من الوجد على ديني والخوف من ربي – ما يجعلني أفزع إلى القلم أكتب به ما أكتب - كما قلت ? قياماً بما يجب على أهل العلم من النصح للأمة ، فكانت تقرح به صحف تشاركني في شعوري ذلك فتسارع إلى إذاعته بين العالم الإسلامي ، لعل النائم يستيقظ من نومه - والذليل يشعر بألم ذله فيعمل لنفسه ما يريحه و يملك به رقبته

هذا غير ما طبع على حدة في كتب مخصوصة

ذلك وله الحمد شأني من عهد أن كنت طويلباً بالأزهر الشريف للآن ، وهو عهد يناهز ثلث قرن ، انصرم عهد تلك الصحف الإسلامية ، ولبثنا قترة طويلة لا نجد فيها صحيفة ترحب بكلمة تأخذ بيد حق أو تقضي على باطل ، وفي هذه الفترة أطل الإلحاد برأسه من نوافذ عشه، فلم يلمح ما يخيفه من جند الحق ، فلم ير بأساً من الظهور الجريء ، وحينئذ كان منه لدين الله ما تنفطر له القلوب ، وتسيل العيون .

كان هذا داعياً لأن تقوم صحف إسلامية تقف في وجه ذاك الإلحاد تفهمه ما هو، وما قيمته ، وتحذر أبناء الإسلام منه ، ومما جرّه على كثير ممن يتسمون بسمة الإسلام و ينتمون إليه من جرأة واستخفاف بترك ما أوجب هذا الدين الحنيفي ، وفعل ما حرم .

فرح المؤمنون بهذه الصحف الإسلامية ، وكنت ممن فرحوا بها كل الفرح ، ولم أر بعد وجودها عذراً يبرر سكوت العالم وقد بلغ الفجور منتهاء ، فما ردت ميدان الإرشاد العام والنصح للأمة في حملات من القسوة بالمكان الأول على ذلك الإلحاد وعلى المسرورين به والملتفين حوله والعاملين بما يقضي من مناوأة لدين الحق .

نشر ذك - ولله الحمد - في تلك الصحف الكريمة ، وتلقاء المسلمون بكل شوق وتلهف ، شأن المريض الذي بلغ به للرض مبلغه، و بينما هو يعاني من آلامه ما يعاني ، و إذا بين يديه دواؤه الذي يعيد له صحته أقوى ما تكون

ومن نحو سنتين رأيت أن أبالغ في عمل ما به أرى - إن شاء الله - أني برئت البراءة كلها عند ربي ، فابتدأت في كتابة سلسلة مقالات أعلنت - بنشرها بهاتيك الصحف حرباً شعواء على كل من انحرف عن دين الاسلام - حرياً لا يشك من رآها في أنها غضبة لله إن شاء الله .

تعمدت أن أبين في تلك المقالات إلى أي حد وصل انحرافنا عن الحق حتى فعل ربنا بنا عادته التي يفعلها مع أتباع رسله إذا أساءوا الاتِّباع ولم يبالوا بسلوك بنيات الطريق.

رأى المؤمنون تلك الكلمات المتتابعة فعظم فرحهم بها و سمعت منهم - كأثر هذا الفرح- ما فهمت منه أنهم داعون لكاتبها ، ذاهبون في تقديره وحسن الظن به إلى حد بعيد.

وقد شاء بعضهم أن يجاهرني بما ينطوي عليه لي فأرسل إلى صحيفة الفتح الغراء - وهي من الصحف الدينية الجليلة – ما نشرته ، وبه قالوا ما قالوا حتى شبهني بعضهم - وانا العدم - بسيدنا عبد الله بن عباس حبر الأمة رضي الله عنهما في أنه إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ، وكاتبني أجلاء من أجل ذلك ، وقالوا ما قالوا ما شاءه لهم إخلاصهم وصدق إيمانهم حتى تمثل أحدهم بقول من قال في ممدوحه:

تجاوز حد المدح حتى كأنه=بأحسن ما يثنى عليه يعاب

ولست أستغرب هذا الذي صدر من أولئك الأجلاء سروراً بما كتبت فإنه مما جبل عليه أهل الصفاء من المؤمنين ، يرى أحدهم الخير يصدر من أي إنسان فيسر به ثم يسر، ولا بتطيع أن يكتم سروره هذا بل يعلنه لمناسبة وغير مناسبة،

جزاهم الله خيراً وأكثر من طرازهم هذا الفخم ، فإن في كلماتهم التي يعلنون بها سرورهم من التشجيع ما يحدث في العاملين من القوة على التقدم إلى الخير والنشاط فيه والازدياد منه ما لا يعلم قدره إلا الله تعالى؛ وتحمل غير العاملين على الاقتداء بالعاملين ، والسير وراءهم قدماً بقدم ، وفي هذا و ذلك من النفع الدنيوي والأخروي ما أكل إلى حضرة القارئ تقديره.

ليسمع هذا صرعى الحسد الذين يبخسون الناس أشياءهم ، أولئك الذين يرون العمل مهما بلغ قي الحسن والإتقان ، فلا تسمع منهم فيه إلا الحط من شأنه والإزراء به وتحقيره وتحقير فاعله ، إن هؤلاء هم السواد الأعظم من الناس اليوم ، وهم لايكثرون في أمَّة إلا وتخور عزائم أبنائها العاملين ، وتضعف همهم ، وتخمد قواهم العاملة مهما كانت ملتهبة - كما هو حاصل فينا اليوم - ولهذا حرم ربنا مثل هذا الذي يصدر منهم تحريما قاطعاً ، إذ يقول تعالى في كتابه : « ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ..

وقد أضاف فضلاء على ثنائهم على تلك الكلمات المتسلسلة أن اقترحوا أن تجمع وتطبع لتكون بين يدي القارئ في كتاب واحد يستطيع من يكون بيده ذلك الكتاب أن يطالع بسهولة كل موضوعاته التي كانت مبعثرة في الصحف بعثرة يصعب معها الاطلاع المذكور ، وإذا أصبحت تلك الكلمات كتاباً عمَّت الفائدة وعظمت العائدة .

هكذا اقترح علينا بعض أعلام هذا العصر ، فلم أر مانعاً من تنفيذ اقتراحهم هذا ، لكن لا اعتماداً على ما أراه في عملي من أنه تشخيص لما بنا من أدواء وعلاج حاسم لما لو عمل به - لم أعتمد على ذلك ، لأن المرء قد يزين له عمله وهو لا هناك ولا هنا، بل نزولاً على إرادة أولئك المقترحين الأجلاء وتقديراً لرايهم ، ولعله خير إن شاء الله ، أنتفع وينتفع به كثير من عباد الله ،

ولتكمل الفائدة ، و يزداد الكتاب عظماً ، رأيت أن أضيف إلى تلك السلسة كلمات أخرى مما كتبته في هذا العهد الأخير الذي تلا تلك الفترة المشار إليها سابقاً ، وهي كلمات تنفق في الوجهة مع سابقتها،

وسيكون البدء إن شاء الله بالكلمات المتتالية نذكرها إن شاء الله كلمة كلمة على حسب الوضع والترتيب الذي نشرت به في الصحف ، وقد نزيد فيها أو ننقص منها ما يقتضيه الحال ، و بعد أن ننتهي نذكر كلمة كنتيجة لها، وبعد ذلك نذكر الكلمات المضافة ونذكر بعد ذلك إن شاء الله كلمة في أمراض القلوب وأدويتها لتكون بذلك قد قمنا بما يتعلق بالظاهر والباطن ، ولم تنشر هذه ولا التي قبلها بالصحف،

ولعلنا نضيف إلى ذلك ما تنشرح به الصدور ، وتبتهج به النفوس من كلمات ننشئها ليس من اللائق خلو مثل هذا الكتاب منها ، يعرفها القارئ من بين أخواتها بالتنبيه عليها بهامش يوضع في أسفل الصحيفة .

وقد جرت عادة المؤلفين أن يمدحوا كتبهم في مقدماتها لنوايا طيبة ، ولست متبعاً أثرهم في هذا الكتاب الذي أرجو أن يقوم هو بمدح نفسه مدحاً يعجز القلم عن قريب منه ، وسيعلم ذلك ذوو الفضل النابهون من هذه الأمة الكريمة .

وإني أحمد مولاي جلَّت قدرته وعلت حكمته ، على أن أعان فحقق ذلك الاقتراح ، وأخرج مقتضاه من العدم إلى الوجود،

ولعك لا شك في ذلك وأنت تراه بين يديك ،

ولما كانت نهضتي لكتابة ما كتبت إنما كنت أريد بها الإصلاح ، رأيت أن أسمى الكتاب : -

النهضة الإصلاحية والله المسئول أن يجعل له من اسمه نصيباً فيرتب على صدوره توفيق الأمَّة لأن تفيق من غفلتها ، ونهض من كبوتها ، وتذكر ما كان لها من مجد لا يسامى فتعمل لاستعادته ، ولا تهدأ حتى تتبوأ مكانها اللائق بها بين الأمم، وما ذلك عليه تعالى بعزيز.

وإني أبتهل إلى مولاي الرؤوف الرحيم الودود أن يدخل الجنة بغير حساب من دعا بذلك لهذا العبد المسكين

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

مصطفى أبو سيف حمامي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين