فقه السيرة النبوية (21)

الحلقة الحادية والعشرون : الحصار الاقتصادي والاجتماعي في آخر العام السابع من البعثة. 

اشتد المشركون على المسلمين كأشد ما كانوا، حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها، أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيةً، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حميةً، ومنهم من فعله إيماناً ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق، لا يتقبلوا من بني هاشم أبدًا صلحًا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل".

وفي روايةٍ أخرى: على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفةٌ، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم.

واشتد الحصار على الصحابة وبني هاشم وبني المطلب، حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، حتى جهدوا من ضيق الحصار، وأكلوا ورق السمر ( مفرده سمرة و هو شجرٌ صحراوي صغير الورق والشوك ) ، وأطفالهم يتضاغون ( يبكون بصوت مرتفع ) من الجوع، حتى يسمع بكاؤهم من بعيدٍ، وأصيبوا بظلف العيش وشدته، إلى حد أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع بقعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها، ثم يحرقها ثم يسحقها، ثم يستفها، ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة أيام ، وقريش تحول بينهم وبين التجار، فيزيدون عليهم السلعة أضعافاً حتى لا يشتروها.

وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعون شراءها .

وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحًا إلى عمته خديجة رضي الله عنها وقد تعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البخترى، ومكنه من حمل القمح إلى عمته .

وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى فراشه حتى يراه من أراد به مكرًا أو غائلة، فإذا نام الناس أخذ أحد بنيه أو إخواته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها. 

ومع كل هذا القهر الذي نزل بالمسلمين كانت تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ألاَّ يواجهوا العدو، وأن يضبطوا أعصابهم، فلا يشعلوا فتيل المعركة، أو يكونوا وقودها، وإن أعظم تربية في هذه المرحلة هي صبر أبطال الأرض على هذا الأذى دون مقاومة – حمزة وعمر وأبو بكر وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم – سمعوا وأطاعوا، فلقوا كل هذا الأذى وهذا الحقد، وهذا الظلم، فكفوا أيديهم، وصبروا ليس على حادثة واحدة فقط، أو يومًا واحدًا فقط بل ثلاث سنين عجاف، تحترق أعصابهم ولا يسمح لهم برمية سهم أو شجة رأس.

فلما كان رأس ثلاث سنين، قيض الله سبحانه وتعالى لنقض الصحيفة أناسًا من أشراف قريش، وكان الذي تولى الانقلاب الداخلي لنقض الصحيفة هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدًا، قال: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا ثالثا ، فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد قال: قد وجدت لك ثانيًا: قال من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثًا: قال: قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، فقال أبغنا رابعًا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي، فقال له: ويحك وهل نجد أحد يعين على ذلك؟ قال: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، فقال: أبغنا خامسًا، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال نعم، ثم سمى له القوم، فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، فقال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كُتبت فيها، ولا نقر به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك؟ فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تُشووِر فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم. 

وقام الطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم) ، وروى ابن إسحاق أن الله عز وجل أرسل على الصحيفة الأرضة فلم تدع فيها اسمًا لله عز وجل إلا أكلته، وبقي فيها الظلم والقطعية والبهتان وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عمه فذهب أبو طالب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذبًا فلكم علي أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقًا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو: نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحدًا في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشِّعب. 

من ناحيةٍ أخرى كانت الدعوة الإسلامية تحقق انتصارات رائعة في الحبشة، وفي نجران، وفي أزد شنوءة، وفي دَوْس، وفي غفار، وكانت تتم في خط واضح ، سيكون سندًا للإسلام والمسلمين ومراكز قوى يمكن أن تتحرك في اللحظة الحاسمة، وامتدادات للدعوة، تتجاوز حدود مكة الصلدة المستعصية. 

دروس وعبر وفوائد

1- من المهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغل هذه الحماية من قبل المسلمين كوسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم فأنعم بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها. 

2- انتصر أبو طالب في غزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة التي هزت كيانه هزًّا وتحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل، أولئك الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم وبني المطلب واستطاعوا أن يرفعوا هذا الظلامة وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا فيه وفي هذا الموقف إشارة إلى أن كثيرًا من النفوس والتي تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضًا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة المناسبة لإزاحته، وعلى أبناء المسلمين أن يهتموا بهذه الشرائح، وينفذوا إلى أعماقها، وتوضح لهم حقيقة القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة، وتبين لها طبيعة العداء بين الإسلام واليهود والصليبيين والعلمانية، فقد يستفاد منهم في خدمة الإسلام.

3- وظاهرة أبي لهب تستحق الدراسة والعناية؛ لأنها تتكرر في التاريخ الإسلامي، فقد يجد الدعاة من أقرب حلفائهم من يقلب لهم ظهر المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير يلقونه من خصومهم الألداء الأشداء. 

4- كانت هذه السنوات الثلاثة للجيل الرائد زادًا عظيمًا في البناء والتربية حيث ساهم بعضه في تحمل آلام الجوع والخوف، والصبر على الابتلاء، وضبط الأعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار. 

5- كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سببًا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق، ولولا ذلك لما تحمل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب. 

6- أثار هذا الحصار سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على بني هاشم وبني المطلب، كما أثار عطفهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما أن انفك الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة وتردد صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتد سلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه، وكان عاملاً قويًّا من عوامل انتشار الدعوة الإسلامية عكس ما أراد زعماء الشرك تمامًا. 

7- كان لوقوف بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله وتحملهم معه الحصار الاقتصادي والاجتماعي أثر في الفقه الإسلامي، حيث إن سهم ذوي القربى من الخمس يعطى لبني هاشم وبني المطلب، ويوضح ابن كثير فيقول: «وأما سهم ذوي القربى، فإنه يصرف إلى بني هاشم، وبني المطلب؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية لهم، مسلمهم طاعة لله ورسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب، وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم على ذلك بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم لشدة قربهم.. وفي بعض الروايات هذا الحديث: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» وهذا قول جمهور العلماء إنهم بنو هاشم وبنو المطلب».

8- على كل شعب في أي وقت، يسعى لتطبيق شرع الله عليه، أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فالكفر ملة واحدة. فعلى قادة الأمة الإسلامية تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها إذا حصلت، وأن تفكر بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار.

9-جواز التحالف المنضبط مع المشركين لتحقيق مصالح للمسلمين.

ويتبدى ذلك جلياً من تضامن مشركي بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمايتهم له كأثر من أعراف الجاهلية، ومن هنا ومن غيره نجد أنه يجوز للمسلم أن يستفيد من قوانين الكفار فيما يخدم الدعوة الإسلامية، بشرط أن يكون ذلك مبنيًّا على فتوى صحيحة من أهلها، وموازناتٍ دقيقةٍ تراعي مقدار المصالح والمكاسب المجتلبة، وما يدرأ هذا التحالف من مفاسد حاصلةٍ أو متوقعةٍ.

يقول الشيخ سعيد حوى رحمه الله في ذلك: "إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم، والحرية الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرة من أقطار العالم تعطي للمسلمين فرصًا وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موزانات دقيقة".

كما أن التحالف السياسي بين المسلمين وغيرهم له صورٌ وأشكالٌ متعددةٌ تتغير بحسب الظروف وحيثياتها وبحسب حال المسلمين ضعفاً وقوةً وحاجتهم إلى الصلح أو دفع العدوان وكل ذلك خاضعٌ لمنطق السياسة الشرعية وفقه الموازنات الرشيدة.

وقد ذكر الباحثون في السياسة الشرعية عدة شروطٍ أو ضوابطَ لأي تحالفٍ يتم بين المسلمين وغيرهم، ومن هذه الشروط:

1. أن يحقق التحالف السياسي مصلحةً للمسلمين دون التنازل عن أي جزئية من الدين أو العقيدة.

2. رفض أي حلفٍ سياسيٍ يجعل المسلمين تحت سلطان أعدائهم.

3. رفض إعطاء أية ضماناتٍ بأن يكون الحكم لغير الإسلام في وقتٍ من الأوقات.

4. رفض أي حلفٍ يضع قيوداً على الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته.

5. أن تكون هناك حاجةٌ حقيقيةٌ ملحةٌ تدعو إلى هذا التحالف.

6. ألا يكون في الحلف السياسي ما ينم عن مولاةٍ وتوددٍ للكافرين، أو ينم عن الرضا والإعجاب بما لديهم من كفرٍ.

ويمكن رد ما ذكره الباحثون من شروط وضوابط لجواز التحالف مع غير المسلمين إلى ثلاثة ضوابط رئيسيةٍ:

1. انتفاء الشروط الفاسدة في العقد، فكل حلفٍ أو معاهدةٍ تشتمل على شروط تخالف الإسلام في عقد التحالف فهو حلفٌ باطلٌ أو معاهدةٌ باطلةٌ.

2. أن يحقق التحالف السياسي مصلحةً راجحةً للمسلمين، يقدرها خليفة المسلمين وحاكمهم في حال وجوده أو جماعةٌ من العلماء المجتهدين الحريصين المؤتمنين في إطار ما يعرف بالاجتهاد الجماعي. ومن المصالح الراجحة على سبيل المثال لا الحصر أن يكون بالمسلمين ضعفٌ أو قلة عددٍ أو يرجى إسلام المتحالف معهم، أو بذل الجزية منهم، أو يستعين بهم على غيرهم.

3. ألا يلحق هذا الحلف ضرراً بأية دولةٍ إسلاميةٍ أخرى أو جماعةٍ إسلاميةٍ أخرى.

والعمدة في ذلك مصلحة المسلمين، وهذا يحتاج لدراساتٍ معمقةٍ وشاملةٍ لذلك التحالف، وإخضاعه لفقه الموازنات الرشيدة، ولا بد أن يكون في الجماعة المسلمة التي تجري ذلك التحالف من التربية الإيمانية وحسن الطاعة في أفرادها ما يمنع ذوبانها واحتواءها، ويمنع من إقرارها لحكم ظالمٍ مستبدٍّ بالسكوت على ظلمه أو التهادن معه كشرطٍ من شروط التحالف.

عام الحزن 

أولاً : وفاة أبي طالب . 

كانت وفاة أبي طالب بعد مغادرة بني هاشم شعبه، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث وقد كان أبو طالب (يحوط النبي ويغضب له) و(ينصره) ، وكانت قريش تحترمه، وعندما حضرته الوفاة جاء زعماء الشرك وحرضوه على الاستمساك بدينه وعدم الدخول في الإسلام قائلين: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام قائلاً: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال أبو طالب: لولا تعيرني بها قريش يقولون: إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) [القصص: 56] كانت أفكار الجاهلية راسخة في عقل أبي طالب، ولم يتمكن من تغييرها، فهو شيخ كبير يصعب عليه تغيير فكره وما ألفه عن آبائه، وكان أقرانه حاضرين وقت احتضاره فأثروا عليه خوفًا من شيوع خبر إسلامه وتأثير ذلك على قومه. 

ثانياً : وفاة خديجة رضي الله عنها. 

أما السيدة خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقد توفيت قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين في نفس عام وفاة أبي طالب. 

وبموت أبي طالب الذي أعقبه موت خديجة رضي الله عنها، تضاعف الأسى والحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقد هذين الحبيبين اللذين كانا دعامتين من دعائم سير الدعوة في أزماتها، كان أبو طالب السند الخارجي الذي يدفع عنه القوم، وكانت خديجة السند الداخلي الذي يخفف عنه الأزمات والمحن، فتجرأ كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه ما لم يكونوا يطمعون به في حياة أبي طالب وابتدأت مرحلة عصيبة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم واجه فيها كثيرًا من المشكلات والمصاعب، والمحن والفتن حينما أصبح في الساحة وحيدًا لا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى، ومع هذا فقد مضى في تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة على ما يلقى من الخلاف والأذى الشديد الذي أفاضت كتب الحديث وكتب السير بأسانيدها الصحيحة الثابتة في الحديث عنه، وتحمل صلى الله عليه وسلم من ذلك ما تنوء الجبال بحمله، ولما تكالبت الفتن والمحن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلده الذي نبت فيه وبين قومه الذين يعرفون عنه كل صغيرة وكبيرة ، عزم صلى الله عليه وسلم على أن ينتقل إلى بلد غير بلده وقوم غير قومه يعرض عليهم دعوته، ويلتمس منهم نصرتهم رجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إلى الطائف، وهي من أقرب البلاد إلى مكة. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين