من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: رسولاً قائدًا

قالوا: حدِّثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قائدًا.

قلت: كان تاج البشرية ساميا به فرعها ومحتدها، قائدا بصيرا، سيدا حكيما، واضح الرؤية، جلي النظر، هدى قومه إلى دار السلام، ومحل الجنان، ومأوى الصالحين الكرام، وهو أحرص النفوس على جوار رب العالمين ومساكنة المطهرين المقربين، وسلك مسالك الهدى التي أذنه الله بها في حزم وعزم، غير مخطئ مراحلها ولا ترتيباتها، مطيعا ربه في صغار الأمور وكبارها، ومتجنبا عصيانه أقصى التجنب، لم يطمع في تأسيس دولة أو إمبراطورية أو تحقيق مصلحة طارئة من المصالح الدنيوية التافهة، ولم يتهافت على الوسائل مازجا بين المشروع منها وغير المشروع، وإنما كان هدفه الفلاح في الآخرة والفوز بنعماها، غير ملتمس لها بدلا، ومبتغ عنها حولا، ينصب لها نصبا ويكد لها كدا صابرا محتسبا.

قالوا: ما صفاته الشخصية التي أهّلته للقيادة؟

قلت: هي كثيرة، فهو خير بني آدم وأمجدها وأكثرها نائلا وأجودها، وأفرسها فارسا وأطولها باعا وسيدها سؤددا، وخالقُ الخَلْق خالق خُلُقه صلى الله عليه وسلم، اصطنعه لنفسه، واصطفاه على الناس أجمعين، خضعت له العرب والعجم، ودانت له الدنيا، ولعل أجلَّ تلك الصفات هي:

1- شكره لربه على عطاياه ونفحاته، كان مدركا لنعمه، عارفا من خلالها حقه على نفسه، لم تشغله النعم والعطايا عن المولى عز وجل، على عكس غيره من قادة الدنيا، فقد فُتن فرعون ومن سار سيرته بالدنيا ونعيمها الزائل ناسين ربهم غافلين عنه بل جاحدين له وكافرين به، "وقال فرعون: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" (القصص 38)، وقال "أنا ربكم الأعلى" (النازعات 24)، وكذلك علماء الطبيعة في عصرنا الحديث، تعمقوا في معرفة أسرار الخلق ليتكسبوا بها قدرة على الوسائل واستمتاعا بها، مصروفين عن ربهم أن يشكروه ويؤمنوا به ويطيعوه، فويل لهم وويل لما كسبت أيديهم وعقولهم.

2- نصحه لقومه حبًا لهم ورحمة بهم، له أياد إلى قومه وأمته سابغة، يَعُدون منها ولا يُعددونها، يعطي فلا مطلة يكدرها بها ولا منة ينكدها، وكم وكم نعمة مجللة ربَّاها كان منه مولدها، والخلق نبت الربى وهو الغمام، وصف الله تعالى أنبياءه بالنصح والأمانة، وهو أكبرهم وأعظمهم، وازداد عليهم في الفضل فقال: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلىوسلم يقول إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها"، وهل رحمة تعدل هذه الرحمة الصافية مفرطة الصفاء، والسامية غاية السمو.

3- عدله بين أصحابه وأعدائه غير حائف ولا معتد، لم يحمله حب ولا بغض على الظلم والجور، أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيدالخدري رضي الله عنه، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله! فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ الحديث، وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. وقال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بن عدي بن النجار - وهو ‏مستنتل من الصف - ويقال‏‏:‏‏ مستنصل من الصف - فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ قال: فأقدني. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد؛ قال: فاعتنقه فقبل بطنه؛ فقال‏‏:‏‏ ما حملك على هذا يا سواد؟ قال‏‏:‏‏ يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.

3- حكمته في السلم والحرب وفي سائر الشؤون، وهو ذو رأي أصيل، وحجى راجح، ومنطق صائب، ونيل رخيم، وفي الغُرِّ من أفعاله: تدبيره والنقض والإبرام، وساس الناس في عامة شؤونهم سياسة لم يسسها الملوك والتبابعة، ولا القياصرة والأكاسرة، أمَّا في السلم فقد قال تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، وكان من أشد الناس استجابة لدعوة فيها أمن وسلام وصلح ووفاق، وحث المؤمنين على مراعاة حقوق أهل الذمة، وثبت عنه الترهيبُ الشديد، والوعيد الصارخُ، لمن قتَل المعاهدَ".

وأمَّا في حال الحرب فقد قال تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، وإنَّ في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لقادةِ جيوشِه، وأوامرِه لهم عند عَقد الأولوية، ما لا يحتاج إلى بيان، ولا يفتقر إلى برهان؛ إذ هو يُقيم الشواهدَ على أن للدماء حرمتَها، وللأنفس والأرواح قيمتَها؛ فلا يصحّ أن تُترَك غرضًا للاجتهادات، المعتمدة على الآراء والظنون والتأويلات، التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكان يأمر أصحابه المجاهدين ألاَّ يقتلوا طفلاً ولا امرأة، وألاَّ يقطعوا شجراً، وأن يخلُّو بين الراهب وعبادته.

4- سماحته، فقد كان رحب الصدر، صافحا عن زلات الناس، عافيا عن سقطاتهم، ومحسنا إلى المسيئين عن قدرة، أخرج أبو داود عن أنس بن مالك، قال: "خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي: "أفّ"، قط، ولا قال لي لشيء صنعتُه: لم صنعتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لما تركتَه؟ وروى البزار أن أعرابيا جاء يومًا يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا فأعطاه، ثم قال له: أحسنت إليك؟، قال الأعرابي: لا، ولا أجملتَ، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا، ثم دخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئًا، ثم قال: أحسنت إليك؟، قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا أحببتَ فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك، قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن مثلي ومثل هذا الأعرابي: كمثل رجل كانت له ناقة شردتْ عليه، فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحب الناقة: خلُّوا بيني وبين ناقتي؛ فإني أرفقُ بها وأعلم، فتوجَّه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض، فردَّها هونًا هونًا، حتى جاءت واستناخت، وشدَّ عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه، دخل النار.

5- وجمعه أمته على الوحدة والتآخي بينها، قال تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" (سورة آل عمران 103)، وقال: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك". (آل عمران 159). وأخرج الشيخان عن جرير قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: استنصت الناس ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فجمع أمته على الخير والطاعة والتناصح، ونهاها عن التباغض والتدابر والتقاطع، وحمَّلها بذلك شكرا طويلا ثقيلا لا تطيق به حراكا.

قالوا: هل نقدر على اتباعه في صفاته القيادية؟

قلت: لا، لأنه نبي مرسل مؤيد من الله تعالى مختص بخصائص لا يشاركه فيها غيره.

قالوا: عجبنا من جوابك هذا، وكيف لا نتبعه وقد جعله الله أسوة لنا، وأمرنا بأن نقتدي به؟

قلت: وهل تتبعونه في نبوته؟

قالوا: لا،

قلت: فقيادته عليها صبغة من نبوته، وليس الفرق بينكم وبينه درجة أو درجتين كالفرق بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل قيادته من نوع آخر، وقيادة غيره من نوع آخر، وليس بمنكر سبق الجواد، والناس أشباه وأشكال، وهو ليس لهم شبها ولا شكلا، فتفهموا معنى التأسي به واعين له، فقد يختلف من أمر إلى أمر، يجب عليكم أن تتأسوا به في العبادة وما في معناها، وإذا أردتم أن تتأسوا به في صفات القيادة، فانظروا إلى أصحابه الذين أمَّرهم وولاَّهم، وإلى الصفات التي أشاد بها فيهم، فتحلوا بتلك الصفات، ادرسوا صفات الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين، ونعوت معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وزيد بن حارثة وأزواجه أمهات المؤمنين وبناته الطيبات الطاهرات، أخرج مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة، وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، وأخرج مسلم عنها أيضا، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه.

قالوا: لو زدت لنا من ذكره صلى الله عليه وسلم.

قلت: ألذّ من الصهباء بالماء ذكره، وأحسن من يسر تلقَّاه معدم، يفوح أريجا وشذى، ولو ظفرتم بطيب خليط من المسك والعبير لكان في جنبه تفلا، وأنى لمثلي أن يتقصى مناقبه والدهر لفظ، وهو معناه، تشرفت الأرض به وافتخرت الدنيا، وحسبنا أنه إمامنا وقائدنا، ومن يكن الرسول إماما له وقائدا يكن في منتهى المجد والفخر، على وجهه الميمون أزكى الصلوات وأبر التسليمات.

فليس لشمس مذ أنرتَ إنارة=وليس لبدر مذ تممت تمام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين