فقه السيرة النبوية (17)

 

الحلقة السابعة العاشرة : سلمية الدعوة في مكة واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبناء الداخلي.

بإسلام عمر وحمزة – رضي الله عنهما – جهر المسلمون بدعوتهم وبجماعتهم بعد أن مرّت الدعوة بمرحلتين دعويتين:

الأولى: سرية الدعوة وسرية التنظيم والعمل الجماعي، واستمرت ثلاث سنين.

الثانية: جهرية الدعوة وكانت على جبل الصفا، وسرية التنظيم وانتهت بإسلام عمر وحمزة – رضي الله عنهما –.

وما لبث أن وثبت كل قبيلةٍ على من فيهم من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والتجويع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر كما فعلوا ببلال وعمار وغيرهما – رضي الله عنهم –.

وقد سلط الأذى على الجميع ولم يُستَثْنَ منه أحدٌ، وكثيراً ما فكر الصحابة برد العدوان وبمواجهة المشركين ولكن الرد كان: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة.

ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم، وقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزةٍ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلةً قال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم»

إن المواجهة المسلحة بين الجماعة المسلمة الناشئة وبين المجتمع القرشي الوثني قد يحقق بعض المصالح للمسلمين منها رد الأذى بمثله، ورد الاعتبار للمسلمين المستضعفين، وإذلال المشركين والكسر من شوكتهم، ونصر دين الله وإعزاز أهله.

ولكن هذه المصالح الظاهرة القريبة ما هي إلا مصالح آنيةٌ ما تلبث أن تنقلب إلى النقيض، فالمسلمون قلةٌ قليلةٌ في مجتمعٍ أكثره لا يؤمن بدعوتهم، فالمواجهة المسلحة ستدخل المسلمين في دوامةٍ تبدد طاقاتهم وتطحنهم في رحاها طحناً وبالتالي ستوأد الدعوة الوليدة في مهدها، وإن عاشت بعض الوقت فسيكون قصيراً جداً، لذلك كان التوجيه النبوي الحكيم بترك المواجهة لما ستؤول إليه من تلك المفاسد العظيمة التي ستطيح بالدعوة الوليدة.

فالرسول "وازن صلى الله عليه وسلم بين إمكاناته وواجباته، فمن واجبه صلى الله عليه وسلم أن يرفع الحرج عن المؤمنين، وأن يرعى لهم حقوقهم، ويدفع عنهم الكيد والظلم من أعدائهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم مستوى إمكاناته، ومصلحة تأجيل القتال على مصلحة السماح به، في تلك الظروف، فحث على تحمل الضرر الخاص، مقابل ما يرجوه لهم ولدعوتهم عامة، وحثهم على التضحية في عاجل أمرهم، أملاً في الوصول إلى آجله، والصبر على ما يصيبهم في مدةٍ قصيرةٍ، انتظاراً لما وعدهم به من نعيمٍ دائمٍ وسعادةٍ وأمنٍ وأمان في مستقبل الأيام، وشجعهم على التضحية بالدنيا، مقابل ما وعد الله به في الآخرة، فحقق بذلك الخير لهم ولدعوتهم المباركة، حتى أنجز الله لهم ما وعدهم، وسمح لهم بالقتال بعد أن تغيرت ظروفهم، وعظمت عدتهم وقدراتهم" 

ويذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله الحكمة من كف اليد في مكة فيقول: "أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح، لئلا يكون انتصارهم ذريعةً إلى وقوع ما هو أعظم مفسدةً من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحةٌ على مصلحة الانتصار والمقابلة".

ولقد كان للصبر على الأذى الكثير من المصالح التي عادت على المسلمين منها: 

1. تربية الفرد العربي المسلم على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به، ليخلص من شخصه ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيجٍ، ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته، ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء (المجتمع المسلم).

2. كما أن الدعوة السلمية، أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها – في مثل هذه الفترة – إلى زيادة العناد، ونشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات، تنسى معها فكرته الأساسية.

3. و من ذلك أيضًا اجتناب إنشاء معركةٍ ومقتلةٍ داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد، ومعنى الإذن بالقتال، في مثل هذه البيئة، أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام، ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال، فقد كانت دعاية قريش في المواسم، إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته، فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي؟ 

4. و من ذلك أيضًا، لما يعلمه الله من أن كثيرًا من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بين هؤلاء؟ 

5. و من ذلك أيضًا؛ أن النخوة العربية في بيئةٍ قبليةٍ من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم، وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة، فابن الدُّغُنَّة لم يرض أن يترك أبا بكر وهو رجل كريم يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارًا على العرب، وعرض عليه جواره وحمايته، وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب.

6. وربما كان ذلك أيضًا لقلة عدد المسلمين حينئذ، وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش، وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف، ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة، حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم، ويبقى الشرك ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة.

7. إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة ،كان قائمًا ومحققًا وهو (وجود الدعوة)، ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع، ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة، ولا يجرؤ أحد على سجنه أو قتله، أو أن يفرض عليه كلامًا بعينه يقوله.

8. إن القتال في مكة يسبب في مفسدةٍ إعلاميةٍ تتمثل في إشاعة المشركين أن محمداً يفرق بهذا الدين بين الابن وأبيه، بل إنه يأمر الابن بقتال أبيه 

أثر القرآن الكريم في رفع معنويات الصحابة.

كان للقرآن الكريم أثر عظيم في شد أزر المؤمنين من جانب وتوعده الكفار بالعذاب من جانب آخر، مما كان له وقع القنابل على نفوسهم، وقد كان دفاع القرآن الكريم عن الصحابة يتمثل في نقطتين:

الأولى: حث الرسول صلى الله عليه وسلم على رعايتهم وحسن مجالستهم واستقبالهم ومعاتبته على بعض المواقف التي ترك فيها بعض الصحابة لانشغاله بأمر الدعوة أيضاً. 

الثانية: التخفيف عن الصحابة بضرب الأمثلة والقصص لهم من الأمم السابقة، وأنبيائها، وكيف لاقوا من قومهم الأذى، والعذاب ليصبروا ويستخفوا بما يلاقون، وأيضًا بمدح بعض تصرفاتهم، ثم بوعدهم بالثواب والنعيم المقيم في الجنة، وكذلك بالتنديد بأعدائهم الذين كانوا يذيقونهم الألم والأذى. 

أما النقطة الأولى: حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد مع المستضعفين من أصحابه: خباب وعمار، وابن فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية وصهيب وأشباههم، فكانت قريش تهزأ بهم، وقال الكفار بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، ثم يقولون أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق، لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا. 

ورد الله سبحانه وتعالى على استهزاء هؤلاء الكفار مبينًا لهم أن رضا الله لبعض عباده، لا يتوقف على منزلته ولا مكانته بين الناس في الدنيا، كما يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم، حتى لا يتأثر بما يقوله الكفار، من محاولات الانتقاص من شأن هؤلاء الصحابة، ومبينًا له أيضًا مكانتهم فيقول الله تبارك وتعالى: ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ? وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ? وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[الأنعام:52-54]. 

وهكذا بين الله لرسوله شأن هؤلاء الصحابة وقيمتهم ومنزلتهم التي يجهلها أو يتجاهلها الكفار، ويحاولون أن ينالوا منها، بل ويزيد الله على ذلك أن ينهى الرسول عن طردهم، كما يأمر بحسن تحيتهم، ويأمره أيضا أن يبشرهم بأن الله سبحانه، قد وعد بمغفرة ذنوبهم بعد توبتهم. 

كيف تكون الروح المعنوية لهؤلاء، كيف يجدون الأذى من الكفار بعد ذلك, إنهم يفرحون بهذا الأذى الذي وصلوا بسببه إلى هذه المنازل العظيمة. 

ثم نرى عتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكان هذا العتاب في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، ولم يجبه على سؤاله لانشغاله بدعوة بعض أشراف مكة. 

فنزل قول الله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ? أَن جَاءَهُ الأعْمَى ? وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ? أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ? أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ? فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ? وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ? وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى ? وَهُوَ يَخْشَى ? فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) [عبس: 1-10]. 

إنه لا مجال للامتيازات في دعوة الحق بسبب الحسب والنسب أو المال والجاه، فهي إنما جاءت لتأصيل النظرة إلى الإنسان وبيان وحدة الأصل، وما تقتضيه من المساواة والتكافؤ، من هنا يمكن تعليل شدة أسلوب العتاب الذي وجهه الله تعالى لرسوله للاهتمام الكبير الذي أظهره لأبي بن خلف على حساب استقباله لابن أم مكتوم الضعيف فابن أم مكتوم يرجح في ميزان الحق على البلايين من أمثال أبي بن خلف لعنه الله. 

وكانت لهذه القصة دروس وعبر استفاد منها الرعيل الأول، ومن جاء بعدهم من المسلمين ومن أهم هذه الدروس، الإقبال على المؤمنين على الدعاة البلاغ وليس عليهم الهداية، في قصة الأعمى دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله لكتم هذه الحادثة، ولم يخبر الناس بها لما فيها من عتاب له صلى الله عليه وسلم ولو كان كاتمًا شيئًا من 

الوحي لكتم هذه الآيات وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش فعلى الدعاة تقديم أهل الخير والإيمان. 

أما النقطة الثانية: في دفاع القرآن الكريم عن الصحابة، فقد كانت بالتخفيف عنهم، وكانت أهم وسائل التخفيف بإظهار أن هذا الأذى الذي يلقونه لم يكن فريدًا من نوعه، وإنما حدث قبل ذلك مثله وأشد منه كانت القصص التي تتحدث عن حياة الرسل في القرآن الكريم من لدن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- تثبيتًا للمسلمين ولروح التضحية والصبر فيهم من أجل الدين وبينت لهم القدوة الحسنة التي كانت في العصور القديمة من أنجح الوسائل في ميادين الإعلام والتربية والتعليم والعلاقات العامة، فالقصص القرآني يحوي الكثير من العبر والحكم والأمثال. 

كان أيضًا من أساليب القرآن في تخفيفه عن الصحابة والدفاع عنهم أسلوبه في مدحهم ومدح أعمالهم في القرآن الكريم يقرؤها الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما حدث مع الصديق لما أعتق سبع رقاب من الصحابة لينقذهم من الأذى والتعذيب، في نفس الوقت الذي يندد فيه بأمية بن خلف الذي كان يعذب بلال بن رباح، فالقرآن بدستوره الأخلاقي قد قدم قواعد الثواب والعقاب وشجع المؤمنين وحذر المخالفين، وحمل هذا التنديد مغزى عميقًا، فقد أنار الطريق للصحابة، وكان غمة وكربًا على نفوس الكفار المترددين، إذ جاء قول الله تعالى: ( فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ? لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى ? الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ? وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى ? الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ? وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ? إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى ? وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) [الليل: 14-21]. 

وكذلك خلَّد القرآن ثبات وفد نصارى نجران على الإسلام رغم استهزاء الكفار ومحاولاتهم لصدهم عن الإسلام، لذا نزلت فيهم بعض الآيات كما يذكر بعض المؤرخين قال تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ? وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ? أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) [القصص: 52-54]. 

وكانت الآيات بعد ذلك تبشر الصحابة بالثواب العظيم وبالنعيم المقيم في الجنة، جزاء بما صبروا وما تحملوا من الأذى، وتشجيعًا لهم على الاستمرار في طريق الدعوة غير مبالين بما يسمعونه وما يلاقونه، فالنصر والغلبة لهم في النهاية كما بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، وكما بين لهم القرآن، كما بين القرآن الكريم في نفس الوقت مصير أعدائهم, كفار مكة قال: ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ? يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) [غافر: 51،52]. 

وبين فضل تمسكهم بالقرآن وإيمانهم به قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ? لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) [فاطر: 29،30]. 

وبين سبحانه فضل التمسك بعبادته رغم الأذى والتعذيب، وبين جزاء الصبر على ذلك قال تعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ? قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [الزمر: 9،10]. 

وهكذا كان القرآن الكريم يخفف عن الصحابة ويدافع عنهم، ويحصنهم ضد الحرب النفسية، وبذلك لم تؤثر تلك الحملات ووسائل التعذيب على قلوب الصحابة؛ بفضل المنهج القرآني، والأساليب النبوية الحكيمة، لقد تحطمت كل أساليب المشركين في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمام العقيدة الصحيحة والمنهج السليم الذي تشرَّبه الرعيل الأول. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين