عمرو بن هشام (أبوجهل) ، وفلسفته السياسيّة الممتدّة عبر القرون

فلسفة عَمرو بن هشام السياسيّة

حين دمغت الأدلّة الساطعة , لنبوة محمد ، صلّى الله عليه وسلم ، عمرو بن هشام المخزومي، المدعوّ"أبا الحكم"، والذي سمّاه النبّي"أبا جهل".. حين دمغته الأدلّة الساطعة، ولم يجد تهمة يلصقها بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ، بعد أن بارت سائر التهم التي جرّبتها قريش"ساحر- كذاب- مجنون.."..حينذاك لم يجد أبو جهل أمامه ، سوى الاعتراف بالسبب الحقيقي ، الذي يمنعه من الاعتراف ، بنبوّة محمد، صلّى الله عليه وسلّم :

"كنا نحن وبنو عبد مَناف كفَرسَي رهان ,أطعموا فأطعمنا, وسقوا فسقينا.. والآن يقولون : ظهر منّا نبىّ . فمن أين نأتيهم بنبّي ؟ كلاّ والله .. لن نسلّم لهم بهذا أبداّ..!

إذن هو الخوف, الخوف على الزعامة , وعلى السيادة, ذلك الذي منع أبا جهل، من الإقرار بنبّوة محمد .. بل دفعه وعشيرته والمتنفذين من العشائر الأخرى, إلى محاولة منع محمد ، صلى الله عليه وسلّم ، من مجرّد نشر دعوته بين الناس , لا بين صفوف قريش فحسب . وكان طلب محمد ، صلى الله عليه وسلّم ، الأساسي منهم, هو أن يتركوه يدعو الناس :"خلّوا بيني وبين الناس ". وهم يصّرون على محاصرته بشتىّ السبل منها قولهم :"لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه". ومنها قولهم:"إنْ هذا إلا أساطير الأولين".

فالسبب الحقيقي لدى أبي جهل وعشيرته وأضرابه , في السعي لمنع الإسلام والمسلمين من حرّية الحركة في مكة,هو سبب سياسي بالدرجة الأولى "الخوف من ضياع الزعامة والسيادة والهيمنة والنفوذ..".

ب- فما السبب الذي يدفع أبناءه اليوم, وأبناء حليفه عبد الله بن أبيّ بن سلول, رأس النفاق ورمزه التاريخي.. صاحب فلسفة:"وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا,وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم , إنّما نحن مستهزئون". ما الذي يدفع هؤلاء الأبناء إلى محاصرة الإسلام، ومنعه من حرّية الحركة،في بلاد تدين أكثرّية أهلها الساحقة بالإسلام!؟ مع التذكير بأن البنوة متعددة الوجوه, منها العقدي والفكري والخلقي..

لماذا لا تسمح الأنظمة الحاكمة ، في كثير من بلاد العرب والمسلمين,(بقيام أحزاب سياسيّة على أساس دينيّ )!؟

أمّا الأسباب التي تلوكها هذه الأنظمة صباح مساء, فقد باتت معروفة, منها:

"عدم الخلط بين الدين والسياسة"! لماذا؟ لأن (خلط الدين بالسياسة يسئ إلى الدين,ويشوّه نقاءه, وصفاءه, وطهارته, وسموّه..!) فينبغي أن يظّل الدين بعيداً عن السياسة, وبالتالي بعيداً عن حياة الناس ؛ لأن السياسة في حقيقتها كالماء و الهواء والغذاء، في المجتمعات الإنسانيّة. وهي في العصر الرّاهن , متغلغلة في كل شيء، في الماء والغذاء والدواء والمسكن والملبس والأرض والجو والبحر .. وفي كل ما تلقفه الحواس البشريّة الخمس من موجودات الحياة ..!

فإذا غاب الدين عن السياسة, ظلّ محافظاً على صفائه ونقائه وطهارته, فلم تلوثه السياسة بأدرانها ..! وبالتالي , تظّلّ السياسة محافظة على ما فيها من فساد ومكر وخبث وتآمر وجشع وحقد ! أي تظَل مستنقعاً آسناَ، لا يطهّره دين ولا خُلق! وتظلّ المجتمعات البشرية , بناء عليه، خاضعة لمعطيات السياسة، لا يطهرها الدين بطهارته ، ولا يقيدها الدين بتشريعاته وأحكامه الربانيّة السامية، ولا يصفيها بأخلاقه الرفيعة الكريمة.

ومن أراد أن يظلّ صافياً طاهراً نقياً من البشر، فعليه بدور العبادة ، يلزمها ولا يغادرها ،"ويترك السياسة لأهلها"!

هذه هي المعادلة: "لا دين في السياسة،ولا سياسة في الدين". وهذا ما تؤدّي إليه في حياة الأفراد والمجتمعات..

وهذا هو السبب الأول ، الذي يطرحه "المتنورون"! وهو مفهوم غربي أفرزته تفاعلات المجتمعات النصرانية الغربيّة، وصراعاتها فيما بينها "بين الساسة ورجال الكنيسة "..

ومادام غربياً فهو(تقدّمي) بالضرورة ،(رائع راق صالح) بحكم طبائع الأشياء، وإلاّ فما معنى أن يكون غربياً!؟ ومجرد الاعتراض على تطبيقه في بلادنا، معناه "التخلف ، والهمجية، والانغلاق، والتعصّب، والجهل والتأخر، والفساد، والضياع ، و..التلاشي.. !"

أمّا الديموقراطية (الغربيةّ),المواكبة لهذا المفهوم (الغربيّ),فلا تناسب مجتمعاتنا,"لأن لكل بيئة خصوصياتها" و"ما يصلح لبلاد الغرب لا يصلح بالضرورة لبلادنا"!

فهل هذه "العبقريّة!" نابعة من فلسفة (أبي جهل),أم من فلسفة (عبد الله بن أُبيّ بن سلول),أم هي مزيج مبتكر مطوّر من الفلسفتين معاً!؟

والسبب الثاني، الذي يطرحه مانعو الفكر الإسلامي ، من المشاركة في الحياة السياسية, هو "الخوف على حقوق الأقليّات غير المسلمة"!

طرح الفكر الإسلامي في العمل السياسي العام، يؤثر على حقوق الأقليّات غير المسلمة! صحيح أنّ الأكثريّة الساحقة من الشعوب المسلمة تدين بالإسلام, وتؤمن بأحكامه، وتشريعاته، وأخلاقه, وآدابه, ويرتبط به وجودها, وماضيها, وحاضرها و مستقبلها..إلاّ أنّ هذا لا يعني البتة ، أنها يجب, أو حتى يجوز,أن تحكم بالشريعة الإسلاميّة , والقوانين الإسلاميّة؛ لأنّ هذا يؤثر على مشاعر الأقليّات غير المسلمة، وربما يؤثر على مصالحها "دون النظر إلى حقيقة تعامل الإسلام مع الأقليّات في نصوصه الواضحة، وفي تاريخه الناصع، وما لقيته الأقليّات من رعاية في كنفه ,لا تحلم بها حتى في البلاد التي تنتشر فيها عقائدها"..

واستناداً إلى هذا الخوف على مشاعر الأقليّات ومصالحها,لا يجوز طرح الفكرة الإسلاميّة في المعترك السياسي . وبالتالي يجب منع الأحزاب الإسلاميّة في بلاد المسلمين, من العمل , بل لا يجوز أن يرخص لها بالعمل أساساً.. صحيح أنّ الأحزاب النّصرانيّة في بلاد النّصارى في الغرب ، يحقّ لها العمل , بأسماء مختلفة "الحزب الديموقراطي المسيحي..".. و صحيح أننا نستورد تقليعات الفكر السياسي الغربي ، بصورها المختلفة .. إلاّ أنّ الأمر يختلف هنا , في هذه القضيّة بالذات !

نصارى الغرب ، يحقّ لهم في بلادهم ، تشكيل أحزاب على أسس دينيّة, دون النظر إلى مشاعر الأقليات غير النصرانية في بلادهم . أمّا مسلمو الشرق ، فلا يجوز لهم ذلك ! لأن مشاعر الأقليات غير المسلمة عندنا ، مرهفة جدّاً،بخلاف مشاعر المسلمين ، الذين يُمنعون من تطبيق أحكام دينهم في بلادهم .. وكذلك لأن مصالح الأقليّات غير المسلمة ، في بلاد المسلمين ، أهمّ من مصالح المسلمين، الطامحين إلى تطبيق شريعتهم وقوانينها ، في حياتهم اليوميّة، في بلادهم !

والطريف : أن حكّام المسلمين ، الذين يحولون قسراً، وعن عمد وتصميم، بين المسلمين وأحكام دينهم.. الطريف أن هؤلاء الحكّام ، يزعمون أنهم ينتمون إلى الأكثريّة المسلمة في بلاد المسلمين..! والأطرف، أن بعض أبناء المسلمين يصدّقونهم- أو يحبّون أن يصدّقوهم- في هذا الزعم ، مادام هؤلاء الحكّام يعلنون بألسنتهم أنهم مسلمون ! وفقهاؤهم "الأجلاّء"يتصدّون لكل من يشكك بأيّ منهم ، مردّدين الحديث النبوي المعروف:"هلاّ شققت عن قلبه "!؟ وكأن أفعاله وممارساته العلنيّة الصريحة ، تركت في قلبه شيئاً مستوراً ، يحتاج إلى شقّ الصدر لمعرفته!

أمّا السبب الثالث ، الذي يعلنه بعض الحكّام ، لمنع الأحزاب الإسلاميّة من النشاط في بلادها، فهو الخوف ، من أن تبادر الأقليّات غير المسلمة ،إلى تشكيل أحزاب دينّية خاصّة بها . وهذا يؤدّي إلى (زعزعة الوحدة الوطنيّة ) ! وكأن هذه الأقليّات ممنوعة ، أساساً ، من التكتل ، وخوض الانتخابات النيابيّة ! بل كأنها ليس لها"كوتا" انتخابيّة ، في كل بلد مسلم توجد فيه .. وكأن هذه "الكوتا" لا تعطيها حجماً في المجالس النيابيّة ، يكافئ حجمها البشري في الدولة ، ويزيد عليه قليلاً، حتى لو كان حجمها لا يساعدها ، على إيصال نائب واحد إلى "البرلمان" !

والطريف هنا أيضاً : أن هذا الخوف من مبادرة الأقليات الدينيّة ، إلى تشكيل أحزاب تنافس الأحزاب الإسلاميّة..لا يكافئه خوف من الأقليّات العرقيّة المسلمة ، من أن تبادر هذه الأقليّات إلى تشكيل أحزاب ( عرقيّة ) تنافس الأحزاب القومية العربية..! لماذا؟ لأن الأقليات العرقيّة المسلمة لا تدعمها دول غربيّة "أولاً ".

ولأنها تبقى مسلمة مهما اختلفت أعراقها "ثانياً " .. ولأن مشاعرها ومصالحها غير محترمة ، من قبل حكّام بلادها "ثالثاً"؛ بل لأنها مقموعة مسحوقة في بلادها، كأكثريّة المسلمين "رابعاً".

هذه هي أهمّ الأسباب التي يتذرّع بها حكّام المسلمين ، لمنع قيام أحزاب إسلاميّة في بلاد المسلمين !

وهي ذرائع ظاهرٌ كل ما فيها من "منطقيَّة.. ووجاهة"!

ج-أمّا السبب الحقيقي والأقوى ، فهو ذلك الذي أشار إليه ، صراحة ، عمرو بن هشام "أبو جهل"..إنه الخوف من انتزاع السيادة ،أي من انتزاع السلطة ، وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين ..!

كيف؟ إن الأحزاب القوميّة العلمانيّة عامّة ، لا رصيد لها في صفوف الشعوب المسلمة ..هي تعرف هذا، و الشعوب تعرف هذا .

" وبالطبع إشارتنا إلى هذه الحقائق ، لا تعني أننا هنا نهاجم هذه الأحزاب، أو نودّ الغضّ من شأنها أو التقليل من أهميّتها.. فما هذا من شأننا هنا، ولسنا بصدده".

وبناء على ما تقدّم، من ضعف رصيد الأحزاب القوميّة واليساريّة لدى الشعوب، يتصدّى الحزب الحاكم، سواء أكان قوميّاً أم يساريّاً، أم حتى ليبراليّاً ، لمنع الأحزاب الإسلاميّة، التي يمكن أن تهدّد سلطته، في صناديق الاقتراع ، متذرّعاً بالحجج المذكورة آنفاً.. وفي الوقت ذاته، يسمح للأحزاب الأخـــرى"ليبراليّة-قوميّة- يساريّة..." بالعمل السياسيّ لأن "الديموقراطيّة" تقتضي ذلك! ولأنه إذا مَنع هذه الأحزاب من العمل السياسي ، سوف يُتهم بالاستبداد والدكتاتوريّة والتسلط وقمع الرأي الآخر ..وبالتالي "عدم الديمقراطيّة" ! وهذا يزعج الدول الغربيّة الديموقراطيّة، ويزعج منظمات حقوق الإنسان !

لذا؛ يقول الحزب الحاكم لنفسه ببساطة : نحن والأحزاب الأخرى غير الإسلاميّة، كأفراس رهان ، في ساحة المنافسة السياسيّة .. كلنا متقاربون في الحجم ، ومتقاربون كذلك، في الرصيد الشعبي "فكلنا في الهمّ شرق"!. لذا ، لا يخيفني -أنا الحزب الحاكم –أيّ حزب غير إسلامي. فبالإضافة إلى تقارب أحجامنا وأوزاننا وأرصدتنا الشعبيّة ، فإن شعاراتنا وبرامجنا السياسيّة متقاربة كذلك، من حيث أهميّتها لدى الشعوب المسلمة، التي لم تستطع أحزابنا التجذر فيها، بسبب ما تحمله هذه الشعوب، من عقيدة إسلاميّة وقيم إسلاميّة .. والخطر كله ، يكمن في الأحزاب الإسلاميّة، وشعاراتها وبرامجها .. فهذه ستعزلنا عن الشعوب، وتهيمن على الساحة، وتحصد الأكثريّة الساحقة من أصوات الناخبين المسلمين . وها هي ذي تجارب الانتخابات ، في العالم الإسلامي كله ، أدلة ساطعة على هذه الحقيقة ..!

فما الذي ينبغي فعله، والحال هذه ؟ هل ثمّة أسلوب أفضل "للديموقراطيّة" من منع الأحزاب الإسلاميّة ‍!؟ بالطبع لا . وإذن ,لا بدّ مما ليس منه بدّ- إذا أردنا أن نعيش !-.

حتى إنّ بعض الساسة يعلنها صراحة :" لن نسمح بالجزأرة في بلادنا ". وبالطبع يعني أن تجري انتخابات حرّة ، يفوز فيها الإسلاميوّن , فتضطرّ الفئة الحاكمة، إلى إلغاء الانتخابات، وزجّ الفائزين فيها في السجون , فتنشأ مجازر؛ نتيجة للفعل و ردّ الفعل , كما جرى في الجزائر!

د- والحلّ !؟

أليس ثمّة حلول أخرى , أمام الأحزاب الحاكمة في العالم الإسلامي , سوى منع الأحزاب الإسلاميّة – بقوانين!- من ممارسة حقوقها السياسيّة المشروعة في بلادها !؟

و إذا كان هذا الحلّ ، بطبيعته ، حلاّ عرضيّاً مؤقتاً ، مفروضاً بقوة الحديد و النار - التي تضع

لنفسها قوانينها الخاصّة بالمنع و السماح - .. فإلى متى يدوم هذا الحلّ ؟ وما جدواه الفعليّة للشعوب و الأوطان ؟ و إلى متى تصبر الشعوب المسلمة ، على هذا القهر ؟ وهل ثمّة ضمانات غير الحديد و النار ، تمنع بعض الحركات ذات النفس القصير ، من اللجوء إلى الحديــد والنار!؟

نزعم أن الحلّ موجود ..

أدركته دول عدّة في العالمين العربي و الإسلامي ، و عملت به –و المقصود بالدول هنا الفئات الحاكمة-..

إن هذا الحلّ موجود في دول عدّة ، مثل اليمن ، والأردن ، و باكستان ، واندونيسيا ، وماليزيا ..

إنها الديموقراطيّة (المنضبطة) ! ويمكن تسميتها الديموقراطيّة (التوافقيّة) !

لقد أدركت سائر الأحزاب والحركات الإسلاميّة، التي تؤمن بالعمل السياسي السلمي الديموقراطي..

أدركت الكثير من أبعاد اللعبة السياسيّة، واكتسبت قدرات مناسبة،على التكيّف، وعلى حساب "الممكن والمجدي" في العمل السياسي.

وتشكلت لديها قناعات مطابقة لقناعة عمرو ابن معد يكرب الزُبيدي في بيته المعروف:

إذا لم تستطع شيئاً فدعـــــــه وجاوزْه إلى ما تستطيع’

وتمرّست بفنون "التوافقات .. والتحالفات .. والتنازلات"..

ووعت الفروق بين المبادئ، والسياسات التي تخدم المبادئ، و"التكتيكات" التي تخدم السياسات، والوسائل التي’تنجح التكتيكات ..!

فأيها أفضل - والحال هذه - للأحزاب الحاكمة ؟

الإفادة ممّا تشكل لدى الأحزاب الإسلاميّة، من وعي وتجربة ونضج ومرونة، والتعامل معها ضمن صيغ توافقيّة، تخدم الشعوب والأوطان، وترضي الفرقاء السياسيين كُلاّ بحسب وزنه "الجماهيري"أو"العسكري"؟

أم تلجأ ـ أي الأحزاب الحاكمة ـ إلى سياسة المنع والقمع، التي دأبت عليها منذ نصف قرن، والاحتفاظ بالسلطة كلها "التنفيذيّة والتشريعيّة.. والقضاء الأمني!"دون أن تترك أيّ هامش للإسلاميين .. ولتكن العواقب ما تكون، حتى لو كان المتوقع، هو مصير عمرو بن هشام !؟

السؤال مطروح ، على الأحزاب الحاكمة، في الدول التي تقودها أحزاب حاكمة، متفرّدة بالسلطات ، بقوة الحديد والنار ..!

وسبحان القائل:

"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين