فقه القوة من قصة موسى عليه السلام

كان موسى عليه السلام قويا شديدا ذا بأس.. لكنه حين ألقيت عليه أمانة الرسالة سأل الله أن يعينه بأخيه هارون قائلا (هو أفصح مني لسانا)..

يحتاج صاحب القوة الخشنة دائما إلى هذه القوة الناعمة، يحتاج إلى فصاحة تشرح أفكاره ورسالته في أبهى صورة وبأحسن طريقة.. لقد كانت خشية موسى ألا يسعفه لسانه في شرح رسالته لفرعون.. فطلب هذه الإعانة!

وقد استجاب الله له فأعانه بهارون، هذا بالرغم من أن هارون لم يكن له ذكر في الحوار بين موسى وفرعون.. فآيات القرآن تذكر قصة الحوار كأنه بين موسى وفرعون وحدهما ولا يتدخل فيه هارون.. وقد استطاع موسى بالحوار أن يربك فرعون وأن يثير غيظه ويحاصره كما تراه في سورة طه وسورة الشعراء. (أرجو أن تفتح المصحف وتقرأ هذا الحوار بتدبر وتأمل).

المقصود هنا أن هارون كان دعما معنويا لموسى، وأن الله جعله هكذا ليشد عضده ويؤازره، بينما استطاع موسى أن يقوم بمهمة الحوار وحده..

هذه أيضا قوة أخرى يحتاجها ذو القوة.. القوة المعنوية، قوة السند والمؤازرة.. ومن هاهنا اخترعوا للجيوش هيئة الشؤون المعنوية، وكانت الجيوش قديما يخرج فيها الخطباء والعلماء لتحقيق هذه المؤازرة المعنوية، وكان مجرد الوعد بالمدد يساهم في صمود الجيوش أياما، بل إن انهيار الجيش عند مقتل قائده ليس إلا صورة من هذا المعنى، فالقائد مجرد فرد واحد لا يتسبب موته في انهيار ميزان القوة العددية، لكنه من حيث وُضِعت فيه ثقة الجنود صار قوة عظمى يساوي موتها انهيار الجيش.

في زمن آخر، ذهب موسى للقاء ربه وترك هارونَ قائدا لبني إسرائيل فإذا بهم يعبدون العجل!!.. حاول هارون بما استطاع أن يثنيهم عن هذا الكفر الفظيع بعد النجاة من فرعون بالمعجزة لكنه لم يستطع.. لقد استضعفه بنو إسرائيل حتى كادوا أن يقتلوه، وتحدوه بأنهم سيعبدون العجل حتى يرجع موسى (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى).

جاء موسى فانتهى الموقف في أقل من ساعة، استمع للأقوال ثم أمر بحرق العجل ونسفه.. ولم ينبس أحد ببنت شفة!

لم يصلح مع بني إسرائيل فصاحة هارون ولا حسن منطقه، بل ما أصلحهم إلا شدة موسى وقوته!!

أي أن موسى احتاج لفصاحة هارون وهو يستعد لمواجهة الفرعون الرهيب، بينما الفصاحة وحدها لم تفلح مع المستضعفين.. وهذا هو موقع الفصاحة فعلا: أن تكون إلى جوار القوة فتؤتي ثمرتها، أما حيث تنفرد بنفسها فلا تفعل شيئا..

أدرك المتنبي هذا بعد تجربته فقال متحسرا:

حتى رجعتُ وأقلامي قوائل لي .. المجد للسيف ليس المجد للقلم

قصة موسى ترسم في الحقيقة العديد من علاقات القوة الاجتماعية، وهي حقا قصة غزيرة المعاني التي تحتاج الحركات الإسلامية أن تهضمها!

في قصة موسى العلاقة بين السياسة والمال، وهي تبين أن السياسة هي التي تتحكم بالمال لا العكس.. هذا قارون كان واسع الثراء حتى إن مفاتيح خزائنه لا يقوى على حملها الرجال الأشداء، ومع هذا لم يرفع هذا من شأن قومه بني إسرائيل بل لقد انحاز هو إلى فرعون (السلطة السياسية الحاكمة) وصار حليفا له على قومه بني إسرائيل.

بل إن القوى الخفية كالسحر والجن لا تقف أمام السلطة السياسية، لقد اجتمع نخبة السحرة في يوم واحد أمام فرعون.. فآمنوا.. فَعَذَّبهم وقطَّعَهم وصَلَّبَهم ولم يستطيعوا له شيئا!!

القوة هي الحكم.. القوة المسلحة الخشنة هي صلب الحُكْم والسلطة.. هذه طبائع السياسة، ثم إنها بعد ذلك تستعمل وسائل القوى الناعمة: المال والإعلام والسحر والكهانة والأحبار والرهبان في تدعيم مركزها وترسيخ سلطانها!

ذلك أن القوة وإن كانت صلب الحكم إلا أنها وحدها لا تسوس ولا تحكم، بل لا بد من صناعة الشرعية المعنوية والفكرة والهوية والطبقات المنتفعة الحارسة للنظام..

حتى فرعون الرهيب لم يكن مجرد جبار بالقهر والقوة، بل كان داهية في باب السياسة:

كان له ملأ يستشيرهم ويشيرون عليه (يريد أن يُخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون)

وكان يصنع الرواية الرسمية التي يروجها الإعلام ويشيع أن الوضع تحت السيطرة (إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون)

وكان يخطب في الناس بإنجازاته (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)

وكان يحشد الجماهير لنصرته وكان يخاطبهم طالبا تفويضا (ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)

وكان يفتت الجماهير ويزرع الفتن بينهم (علا في الأرض وجعل أهلها شيعا)

وكان يستقطب من المضطهدين عناصر يجعلهم في ملكه (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم).

والخلاصة بعد أن طال هذا المنشور: أن الفصاحة مهمة لذي القوة والشدة، لكنها بغير قوة لا تسمن ولا تغني من جوع!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين