عبد الله بن عمر رضي الله عنهم من أئمة الدين

نسبُهُ وأبرزُ صفاتِه :

هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن أمير المؤمنين الفاروق عُمَرَ بنِ الخطاب العدويّ القرشيّ . أمُّهُ زينبُ بنتُ مظعون .. وُلِدَ عبدُ الله لأبويه قبل الهجرة بـــ 13 سنة – وتوفي سنة73 للهجرة في خلافة عبد الملك بن مروان، عن 86 سنة . وكان صواما قواما ، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح ، قال ابن عمر رضي الله عنهم { رأيت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنَّ بيدي قطعة إستبرق، وكأنني لا أريد مكانا من الجنة إلا طارتْ بي إليه، ورأيت كأن اثنين أتياني وأرادا أن يذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطيِّ البئر، فإذا لها قرنان كقَرْنَـي البئر، فرأيت فيها ناساً قد عرفتهم، فجعلتُ أقول: أعوذ بالله من النار ، أعوذ بالله من النار .. فلَقِيَنَا ملكٌ فقال : لا تُرَع . فخَلَّيَا عني، فقصَّتْ حفصةُ أختي على النبي صلى الله عليه وسلم رؤيايَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله لو كان يُصلّي من الليل فيُكْثِر" } . ومنذ ذلك اليوم لم يدع عبدُ الله قيامَ الليل إلى أن لقي ربه وهو على ذلك رضي الله عنه .

وكان ابن عمر سخيا جوادا ، أعتق قرابة ألف نسمة ، وكان يصوم فإذا كان موعد الإفطار خرج فوقف أمام داره ونادى : رحم الله امرأً تصدق علينا فأكل معنا .!! وكان من المكثرين في الرواية ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (2630) حديثًا . 

ميلادُه وجهادُه :

ولد في السنة الأولى للبعثة النبويَّة ، يُؤيّدُ هذا أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه يوم بدر فرده لصغر سنه فكان ابنَ (13عاما) ، ثم استأذنه يوم أحد فرده وكان يومها ابنَ (14عاما) ، ثم استأذنه يوم الخندق وكان يومها ابنَ (15عاما ) فأذن له فحضر غزوة الخندق عام 5 للهجرة ؛ كما ثبت ذلك في الصحيح . فهي أول مشاهده ، ثم شهد بعد ذلك المشاهد كلها في الإسلام ، فحضر غزوة بني قريظة عام 5 للهجرة ، وعمرة الحديبية عام 6 للهجرة ، فكان من أهل بيعة الرضوان فيها ، وحضر غزوة خيبر عام 7 للهجرة . وكان في غزوة مؤتة مع جعفر بن أبي طالب عام 8 للهجرة ، وكان مع المسلمين في فتح مكة عام 8 للجرة وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، وحضر غزوة حنين وغزوة الطائف في نفس العام ، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عام 9 للهجرة .. وشارك في فتوح العراق والشام ، فشهد القادسية وما تلاها من فتوح العراق وفارس حتى ورَدَ المدائن . وشهد اليرموك وما تلاها من معارك في فتوح بلاد الشام ، وشارك في فتح مصر مع عمرو بن العاص ، وخرج غازياً في سبيل الله إلى إفريقيا مرتين.

إعراضُهُ عن الخلافة والإمارة والقضاء :

ولما وُلّيَ عثمانُ بن عفان رضي الله عنه الخلافة ، عرض القضاءَ على ابن عُمَرَ ، فاستعفاه منه ، فقال له عثمان : أتعصيني ؟ قال : كلا ، ولكن بلغني أنّ : ( القضاة ثلاثة : قاضٍ يقضي بجهل فهو في النار، وقاضٍ يقضي بهوى فهو في النار، وقاضٍ يجتهد ويصيب فهو كفاف لا وزر ولا أجر، وإني لسائلك بالله أن تُعفيني ) ، فأعفاه عثمان بن عفان رضي الله عنه من ذلك . بعد ما أخذ عليه العهد أن لا يخبر أحدا بذلك ؛ لئلا يتأسى به الصالحون ، فيتعطل أمر القضاء بين الناس .

وكما زهد ابن عمر في القضاء ، زهد عن الخلافة أيضا ، فقد عرضت عليه مرات فلم يجب إليها ، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : [ قال سلام بن مسكين: سمعت الحسن يقول: لما كان من أمر الناس ما كان زمن الفتنة، أتوا ابنَ عُمَرَ، فقالوا: أنت سيّدُ الناس وابن سيّدِهِمْ، والناسُ بك راضون، اُخرُجْ نُبايِعْكَ . فقال : لا والله لا يُهراقُ فيَّ محجمةٌ من دمٍ ، ولا في سببي ما كان فيَّ رُوحٌ ... وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يوم التحكيم : لا أرى لهذا الامر غير عبد الله بن عمر .

فقال عمرو بن العاص لابن عمر: إنا نُريدُ أن نبايعك، فهل لك أن تُعطَى مالا عظيما على أن تدع هذا الامر لمن هو أحرص عليه منك ؟ فغضب ، وقام . فأخذ ابن الزبير بطرف ثوبه ، فقال : يا أبا عبدالرحمن إنما قال : تُعطِي مالاً على أنْ أُبايعَك . فقال: والله لا أُعطِي عليها ، ولا أُعطَى ، ولا أقبلُها إلا عن رضىً من المسلمين .

قلتُ : ( القائل الذهبي ) كاد أن تنعقد البيعةُ له يومئذ ، مع وجود مثل الامام عليٍّ رضي الله عنه ، وسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه . ولو بويع ( أي : عبد الله بن عمر رضي الله عنه ) ، لما اختلف عليه اثنان ، ولكن الله حماهُ وخارَ له ] .

ولما بويع عَلِيُّ بالخلافة ؛ غدا إلَى ابنِ عمر، فقال: هذه كُتُبُنَا فاركبْ بها أميراً إلى الشام ، قال عبدُ الله : أُنشدُك الله والاسلام أن تُعفِيَنِي من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال: والله لتركبنَّ . قال: أذكّرك الله واليوم الآخر . قال: لتركبنَّ والله طائعا أو كارها . قال : فهرب ابنُ عمر إلى مكة . 

روي عنه في اعتذاره عن الدخول في الفتنة التي وقعتْ بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه أنه قال :[ إنما مَثَلُنَا في هذه الفتنة كَمَثَلِ قومٍ يسيرون على جادَّةٍ يعرفونها، فبينما هم كذلك، إذ غشيتْهُمْ سحابةٌ وظُلمةٌ، فأخذ بعضُهم يمينًا وبعضهم شمالاً، فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركَنا ذلك ؛ حتى جلا الله ذلك عنا ، فأبصرنا طريقَنَا الأوَّلَ فعرفناه، فأخذنا فيه . إنما هؤلاء فتيانُ قريش يقتتلون على هذا السُّلطان وعلى هذه الدنيا، ما أبالي أن لا يكون لي ما يَقْتُلُ عليه بعضُهُمْ بعضًا بنعليَّ هاتين الجرداوين ] أي لا شعر عليهما .

مكانَتُهُ في الناس :

أسلم أبوه عمر رضي الله عنه - كما هو معلوم - في السنة الثالثة للبعثة يوم كانت الدعوة سرا ، والنبيُّ وصحبُه مُستَخْفُون بدينهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم ؛ وما إنْ أسلم عُمَرُ حتى تبعته زوجتُهُ زينبُ بنتُ مظعون فأسلمتْ بعده في الأثر ، وهي أختٌ لعثمان بن مظعون ، أحد السابقين إلى الإسلام ، ولم يك عبدُ الله بن عُمَرَ يومها قد أتم الثالثة من عُمُرِهِ بعدُ .. مما يعني أنه نشأ منذ نعومة أظفاره بين أبوين سابقين إلى الإسلام ، ربياه على حب الله ورسوله . وإخلاص دينه لله ، حتى بلغ في ذلك الدرجة القُصوَى ، إيماناً وإخلاصاً ، وتُقىً وعبادةً ، وجهادا بالنفس والمال ..

قال الإمام مالكُ بن أنس رحمه الله :[ كان إمامَ الناس عندنا بعد عُمَرَ زيدُ بنُ ثابت، وكان إمامَ الناس عندنا بعد زيد عبدُ الله بن عمر ] وقال مالكُ مرة أخرى : [ كان ابنُ عمر من أئمة الدين ] وقال عبدُ الله بنُ مسعود رضي الله عنه [ انَّ أملكَ شبابِ قريشٍ لنفسه في الدنيا عبدُ الله بنُ عمر ] وقال ابنُ مسعود في رواية ثانية [ لقد رأيتنا ونحن متوافرون ؛ فما بيننا شابٌّ هو أملكُ لنفسه من عبد الله بن عمر ] وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال [ ما منا من أحدٍ أدرك الدنيا الا مالتْ به ومال بها غير عبد الله بن عمر ] وعن السّدِّيِّ رحمه الله قال : [ رأيتُ نفرا من الصحابة كانوا يرون أنه ليس أحدٌ فيهم على الحالة التي فارق عليها النبيَّ صلى الله عليه وسلم الا ابن عمر ] وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : [ ما رأيت أحدًا ألزم للأمر الأوَّل من ابن عمر] وفي الشُّعَب للبيهقي عن أبي سلمه بن عبد الرحمن قال : [ مات ابنُ عمر وهو مثلُ عُمَرَ في الفضل ] ومن وجه آخر عن أبي سلمة قال [ كان عُمَرُ في زمانٍ له فيه نظراءُ . وكان ابنُ عمر في زمانٍ ليس له فيه نظير ] .. مكث ستين سنة يفتي الناس .. عن مالك عن نافع [ كان ابن عمر وابن عباس يجلسان للناس عند مَقْدَمِ الحاجِّ ، فكنتُ أجلس إلى هذا يوماً ، وإلى هذا يوماً . فكان ابنُ عباس يجيبُ ويفتي في كل ما سئل عنه ، وكان ابنُ عُمَرَ يَــرُدُّ أكثر مما يُفتي ] . قال الليثُ بن سعد وغيره [ كَتَبَ رجلٌ إلى ابن عُمَرَ أنِ اكتبْ إليَّ بالعِلْمِ كلّه ، فكَتَبَ إليه إنَّ العِلْمَ كثيرٌ ، ولكن إنِ استطعتَ أنْ تلقى الله خفيفَ الظَّهْرِ من دماء الناس ، خميصَ البطن من أموالهم ، كافَّ اللسان عن أعراضهم ، لازماً لأمرِ جماعتهم فافعل .] .

ملامحُ فيه .. من أخلاق أبيه :

1 - وفي حلية الأولياء : [ حدثنا أبو عَوَانَة ، عن هلال بن خبّاب ، عن قَزَعَةَ ( هو ابن يحيى مولى زياد ) ، قال: رأيتُ على ابنِ عُمَرَ ثياباً خشنة أو جَشِبَة ، فقلت له : إني قد أتيتُكَ بثوبٍ ليِّنٍ مما يُصنَعُ بخراسان ، وتَقَرُّ عيناي أنْ أراه عليك . قال: أرنيه ، فلمسه ، وقال : أ حرير هذا ؟ قلت : لا، إنه من قُطْنٍ . قال : إني أخاف أن ألبسه ، أخاف أكون مختالا فخورا، واللهُ لا يحب كل مختال فخور ] وفي هذا الصنيع من عبد الله رضي الله عنه مَشَابِهُ من فعل أبيه عمر رضي الله عنه ، حيث كان لا يلبس إلا الخشن من الثياب .. ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى قال [ خطب عمرُ رضي الله عنه الناسَ، وهو خليفة، وعليه إزارٌ فيه اثنتا عشرة رقعة ، وطاف ببيت الله الحرام وعليه إزارٌ فيه اثنتا عشرة رقعة، إحداهن بأدَمٍ أحمرَ ] . 

2 – { وروي أن صديقا لابن عمر جاءه بوعاء مملوء، أهداه إياه .. فسأله ابنُ عمر: ما هذا ؟.قال: هذا دواءٌ عظيمٌ جئتك به من العراق . قال ابنُ عُمَرَ : وماذا يُطَبِّب هذا الدواء ؟ قال: يَهضِمُ الطعام . فابتسم ابنُ عُمَرَ وقال لصاحبه : يَهضِمُ الطعام ؟ إني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما} أي لا حاجة له به . وكان عبد الله في هذا متأسياً بأبيه رضي الله عنه ، فيما ذكر عنه ابن الجوزي في صفوة الصفوة : عن مصعب بن سعد قال [ قالت حفصةُ لعُمَرَ : يا أمير المؤمنين ؛ لو اكتسيتَ ثوباً هو ألينُ من ثوبك ، وأكلتَ طعاماً هو أطيبُ من طعامك ، فقد وسَّع الله عليك من الرزق ، وأكثر من الخير .. فقال إني سأخاصمُك إلى نفسك ؛ أما تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من شدة العيش ، وكذلك أبو بكر؟ فما زال يذكرها حتى أبكاها . فقال : لها أما والله لأشاركنَّهما في مثل عيشهما الشديد ؛ لعلي أدرك عيشهما الرخيَّ ] ..

3 – وكان ابن عمر يقول كلمة الحق ، لا يخشى في الله لومة لائم . فقد واجه الحجاج بما يكره أكثر من مرة .. من ذلك أنه كان الحجاج يخطب على المنبر يوما ، فقال فيما قال : " إن ابن الزبير حرّفَ كتابَ الله " فَرَدَّ عليه ابن عمر قائلا : كذبتَ .كذبتَ . كذبتَ . ما يستطيعُ ذلك ، ولا أنت معه .. فقال له الحجاج : اسكُتْ، فإنك شيخٌ قد خَرِفتَ، وذهبَ عقلُكَ ... يقول سعيدُ بن عمرو بن سعيد الأشدق الأموي : إن الحجَّاج وَجِد في نفسه، وأمَرَ بعضَ خاصَّته، فأخذ حَربةً مسمومة، وضرَب بها رِجْلَ ابنِ عُمَرَ في موسم الحج، وكان ابن عمر يومها قد كُفَّ بَصَرُهُ . فمَرِضَ رضي الله عنه من تلك الضَّربة . فأتاه الحجاج يعودُه ، فقال : لو أعلمُ الذي أصابك، لضربتُ عُنقه، فقال عبدُ الله: أنت الذي أصبتني. قال: كيف .؟ قال ابن عُمَرَ : يوم أدخلتَ حَرَمَ الله السِّلاح ].. ثم لم يلبثْ عبد الله رضي الله عنه أن مات ، ودفن في مقبرة المهاجرين في مكة .. وكان استشهاده رضي الله عنه على هذه الصورة ، أشبه باستشهاد أبيه عمر رضي الله عنه .. الذي ذكره المؤرخون ، فقالوا : جاء أبو لؤلؤة المجوسي إلى عمرَ رضي الله عنه متظلماً من شدة الخراج ؛ الذي يفرضه عليه سيده المغيرة بن شعبة . فقال له عمرُ : إنَّكَ رجلٌ صِنْعُ اليدين ، وما خَرَاجُكَ بكثيرٍ في جَنْبِ ما تعمل ، فولَّى المجوسيُّ مَغِيظاً حَنِقاً .. ثم إن عُمَرَ لقيه ، فقال له : اصنع لي رحىً . فقال أبو لؤلؤة : لأصنعنَّ لك رحى تدور مع الدهر، ثم إنه غدَرَ به ، فقتلَهُ غِيلةً وهو يُصلّي بالناس الفجر . 

وهكذا كان الذي أصاب ابن عمر من الحجَّاج بن يوسف الثقفي ، كالذي أصاب عمر من أبي لؤلؤة المجوسي .؟ فكل منهما دفع نفسه الطاهرة ؛ ثمنا لكلمة حق قالها ، وفاز بشهادة في سبيل الله .!! ولم لا يكون ذلك كذلك، وهما يقتبسان من مشكاة واحدة . قال تعالى:{ ذُرّيةً بعضُها مِنْ بعضٍ واللهُ سميعٌ عليم } 34/آل عمران

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين