أم عُمارة: نَسيبة بنت كعب (... – 13هـ) مجاهدة لا نظير لها

يقولون: الشيء من معدنه لا يُستغرب.

وهذه الصحابية الفاضلة كانت من أسرة متميزة في صفائها وشجاعتها، ثم إنها تشرفت بالإسلام، وتتلمذت على سيد الأنام، وفقُهت دين الله حقَّ الفقه، فكانت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقُهوا". رواه البخاري.

فلنبدأ بذكر أفراد أسرتها الذين عاشت بينهم فتأثرت بهم أو أثرت فيهم:

- زيد بن عاصم بن عمرو: هو زوجها الأول وابن عمها. شهد بيعة العقبة، كما شهد بدراً وأحُداً.

- غَزِيّة بن عمرو بن عطية النجّاري: تزوجته بعد وفاة زوجها الأول. وهو ممن شهد بيعة العقبة وغزوة أحد. وولدت له تميماً وخولة.

- حبيب بن زيد: ابنها من زوجها الأول، شهد بيعة العقبة وأحداً والخندق وغيرها. أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة كذّاب بني حنيفة صاحب اليمامة، فجعل مسيلمة يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فجعل يقطّعه إرْباً إرْباً، حتى مات بين يديه.

- عبد الله بن زيد: ابنها من زوجها الأول. شهد أحداً كما شارك في قتل مسيلمة الكذاب، فبعد أن ضربه وحشي بالحربة، ضربه عبد الله بن زيد بالسيف فقتله، ثأراً لأخيه حبيب. وقد قُتل يوم الحرّة سنة 63هـ.

- عبد الله بن كعب: أخوها، من البدريين.

- عبد الرحمن بن كعب: أخوها، من البكائين، وهم السبعة الذين نزل فيهم قوله تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتَوْكَ لتحملهم قلتَ: لا أجد ما أحملكم عليه، تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألّا يجدوا ما ينفقون). {سورة التوبة: 92}.

* * *

أم عمارة هي نَسيبة بنت كعب بن عمرو، أنصارية خزرجية مازنية من بني النجار. قال عنها الإمام الذهبي: "الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية النجارية المازنية المدنية. شهدت ليلة العقبة، وشهدت أُحُداً والحديبية ويوم حنين ويوم اليمامة، وجاهدت، وفعلت الأفاعيل".

وكانت ممن أسلم ببركة مصعب بن عمير الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مبشّراً بالإسلام.

وفي موسم الحج جاءت وفود المدينة حُجّاجاً إلى البيت الحرام، وفيهم المسلم والمشرك. وعند العقبة تواعد النبي صلى الله عليه وسلم مع مسلمي المدينة فاجتمعوا به (بايعوه)، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين. وكانت إحدى المرأتين نسيبة بنت كعب، وكانت الأخرى أم مَنيع أسماء بنت عمرو بن عدي، من بني سلمة.

وهتف النبي صلى الله عليه وسلم: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". أي: تحموني مما تحمون منه أهليكم. وأجابه البراء بن معرور: نعم، والذي بعثك بالحق... فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحَلْقة، ورثناها كابراً عن كابر.

وكانت البيعة: الدم الدم، والهَدْم الهدم. أي: ذمّتي ذمتكم، وحُرمتي حرمتكم.

وبايعتْ أم عمارة على السمع والطاعة، وكانت في ذلك في غاية الإيمان والقناعة بل الحماسة. وكانت حياتها بعد ذلك مصداقاً لهذه البيعة.

ومن أعظم مواقفها رضي الله عنها ما كان منها يوم أحد، فقد شهدت الغزوة مع زوجها غَزيّة وابنيها. قالت: خرجتُ وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء... فلما انهزم المسلمون دنوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلتُ أذُبُّ عنه بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلُصَتْ إليّ الجراح. أقبل ابن قميئة يصيح: دُلّوني على محمّد. فلا نجوتُ إن نجا. فاعترض له مصعب بن عمير وناسٌ معه، فكنتُ فيهم فضربني ابن قميئة ضربةً على عاتقي، ولقد ضربتُه على ذلك ضربات، ولكن عدوّ الله كان عليه درعان.

وقالت: قد رأيتُني وانكشف الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم فما بقي إلا في نفر ما يُتمُّون عشرة، وأنا وابناي وزوجي نذبُّ عنه، والناس يمرّون به منهزمين. ورآني لا تُرْسَ لي، فرأى رجلاً مولّياً معه ترس، فقال له: ألقِ تُرسَك إلى مَن يقاتل، فألقى ترسَه، فأخذتُه، فجعلتُ أتترّس به عن رسول الله، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل. لو كانوا رجّالة مثلنا أصبناهم إن شاء الله. فأقبل رجل على فرس فضربني، وتترست له فلم يصنع سيفه شيئاً، وولّى، وضربتُ عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يابن عمارة، أمَّك أمَّك. قالت: فعاونني عليه حتى أوردتُه شعوب الموت.

وقال ابنها عبد الله بن زيد: جُرحتُ يومئذ جرحاً في عضدي اليسرى. ضربني رجل كأنه النخلة، ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ... فأقبلتْ أمي إليّ، ومعها عصائب قد أعدّتْها للجراح فربطتْ جرحي، والنبي واقف ينظر إليّ، ثم قالت: انهض بُنيّ فضارِبِ القوم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ومَن يطيقُ ما تطيقين يا أم عمارة؟. قالت: وأقبلَ الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك. قالت: فاعترضتُ له فضربتُ ساقه فَبَرَك. فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى بدت نواجذه، وقال: قد استقدْتِ يا أم عمارة [أي: قد أخذتِ ثأرك]. ثم أقبلنا عليه بالسلاح حتى أتينا على نفسه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي ظفّرك وأقرّ عينك من عدوّك، وأراك ثأرك بعينك".

قال عبد الله (ابنها): لما تفرّق الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم دنوتُ منه أنا وأمي نذبُّ عنه. فقال: ابن أم عمارة؟ قلت: نعم. قال: ارمِ. فرميتُ بين يديه رجلاً من المشركين بحجر، وهو على فرس، فأصبت عين الفرس، حتى وقع هو وصاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر ويبتسم. ونظر إلى جرح أمي على عاتقها، فقال: "أمَّك، أمك، اعصِبْ جرحها. بارك الله عليكم من أهل بيت". قالت: ادعُ الله أن نرافقك في الجنة. فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.

وقد قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم، في هذه الغزوة: "ما التفَتُّ يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني".

وأصيبت يومئذ بضعة عشر جرحاً، وكان أكبرها الجرح الذي أصابها به ابن قمئة على عاتقها، فقد أقبل هذا المشرك كالجمل الهائج وهو يصيح: أين محمد؟ دلّوني على محمد. فاعترضتْ سبيله هي ومصعب بن عمير، فأما مصعب فقد أصابه سيف المشرك وكتب الله له الشهادة، وأما نسيبة فقد أصابتها ضربة خلّفت على عاتقها جرحاً غائراً، ووجّهت عليه ضربات عدّة، ولكن عدوّ الله كانت عليه درعان. وبقيت سنة كاملة بعد ذلك تداوي جراحها، رضي الله عنها.

وشاركت بعدئذ في غزوة بني قريظة، ونالت نصيبها من الغنيمة. وفي الحديبية كانت، ضمن أربع نسوة خرجن معتمرات، قد شدّت سكيناً بوسطها حذراً من غدر المشركين، وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فكانت من الذين رضي الله عنهم. كما شهدت بعدئذ غزوة خيبر، وعمرة القضاء، وغزوة حنين. وفي حنين قتلتْ أحد فرسان المشركين من هوازن وأخذت سيفه!.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تابعت جهادها فشهدت معركة اليمامة بقيادة خالد بن الوليد لقتال مسيلمة الكذاب، وقاتلت قتالاً مريراً وقُطعت يدها، وجرحت اثني عشر جرحاً... ولم تعبأ بذلك كله، فهو في سبيل الله، ثم وجدت ابنها قد قتل مسيلمة وهو يمسح سيفه من دمه النجس.

ولا عجب بعدئذ أن يكرمها أبو بكر الصدّيق، ويعودها بعد إصابتها. وفي عهد عمر بن الخطاب جيء بمروط [والمروط أكسية من صوف أو حرير، كان يؤتزر بها] فكان فيها مرط جيد واسع، فقال بعضهم: إن هذا المرط لَثَمَنُهُ كذا وكذا، فلو أرسلتَ به إلى امرأة عبد الله بن عمر، وذلك عقب عرسها، فقال عمر: أبعثُ به إلى من هو أحقُّ به منها، أم عمارة نسيبة بنت كعب. سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم أحد: "ما التفَتُّ يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني".

رضي الله عن أم عمارة، ورضي الله عن الجيل الذي ربّاه نبي الله صلى الله عليه وسلم. ما ادّخروا مالاً ولا نفساً دون هذا الدين. لم يؤثِروا الراحة وسلامة الأبدان، بل ضحَّوا بكل ما يملكون وفازوا فوزاً عظيماً: رضوان الله تعالى وجنّته. وبهم، وعليهم، قامت دولة الإسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين