مناجاة الله تعالى

 

قالوا: تحثنا على مناجاة ربنا مستثيرا فينا شوقا إليها ولهفا، وتحببها إلينا تحبيبا، فهل أنت من المناجين له والفزعين إليه الوالهين؟ أم أنت من الواعظين الثرثارين الذين يقولون ما لا يفعلون؟

قلت: أنكرت سؤالكم مستهجنا له استهجانا؟ وكيف لا أناجيه، وهو أكرم من يناجى، وأرجى من ينادى، وكانت مناجاته طعاما لنا وزادا، وشفاء من كل داء وسدادا، ومناجاته ألذ ما يشتهى وأحلاه، وأزكى ما يستطاب وأصفاه، ومناجاته دأب العابدين الخاشعين، ومطمح الزاهدين القانتين، عليه مقبلين غير مالِّين، معتصمين به مستجيرين، وكل إليه منقلبه، وهو مراده ومطلبه.

قالوا فما الذي تناجيه به؟

قلت: أناجيه بفقري وحاجتي إليه، واستعانتي به واعتمادي عليه، وبأياديه السابغة علي ونعمه المستديمة، فكم من كربة نجاني منها، وكم من بلاء كشفه عني، وكم من ذنب لي غطاه، وكم من فضل جاد به علي، فلا سند لي ولا معول إلا إياه، ولا أعرف منعما سواه، ولا نعمة إلا منه، ولا شكرا إلا له، حامدا إياه أن قرّبني نجيا، وأكرمني إذ أخضعني لِبابه إخضاعا، وأغناني عن العالمين، وتولاني حنيفا إليه زاهدا في الخلق أجمعين، هو ربي المنان الذي لا يردني خائبا، ومولاي الذي لست له جاحدا ولا لسواه طالبا، نشطت إذا مدحته مثنيا عليه الخير، وكلَّ لساني وفترت همتي وركد ضميري إذا ذكرت أحدا من البشر مزكيًا له مطريا، إني عندليب جنابه فلا أتغنى بغصن أو دوحة، ولا أتهافت على زهرة أو وردة، أكره أن يكون لغيره عندي يد، فتُجَرَّ محمدتي إليه وليس يُحمد، وربي هو الحميد المجيد، أحب أن أحمده، وهو فوق حمد الحامدين وغني عن شكر الشاكرين، أتعب الخلق أن ينطقوا بمدح يليق بشأنه، وأعياهم أن تخطر ببالهم كلمات شكر تناسب قدره، عجزتُ وعجز الواصفون عن صفته.

قالوا: كيف تناجيه وأنت منه بعيد؟

قلت: هل أحد أقرب إلي منه فأناجيه؟ على أن البعيد إذا أنست به قريب، وأن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه لا يسمع دعاء ولا نداء، غير راع عهدا ولا راقب إلا ولا ذمة، إن ربي قد فتح بابه ليلا ونهارا، داعيا إليه في كرم إسرارا وجهارا، ما على بابه حجاب ولا حاجز، ولا دونه عقبة ولا عائق، وهو من خلقه سميع الدعاء ومجيب السؤال، أنا منه بعيد، ولكنه أقرب إلي من نفسي، وأنا مفارقه وإنه معي، يراني أثيما فيسترني حليما، ويتجاوز عن سيئاتي كريما، ويراني مذنبا فيطهرني من الخطايا، عالم السر والخفايا، وكاشف الضر والبلايا، أشتكي ما بي إليه وأخشاه وأرجوه مثل ما أخشاه.

قالوا: ما لنفوسنا غير ملتذة بمناجاته؟ وما الذي يسَّر لك مناجاته؟

قلت: يسَّرها حنيني إليه حنين الوليد إلى أمه، وحنين المحب لحبيبه، أحن إليه أطراف النهار وزلفا من الليل، وتفنى الأيام وتبيد الشهور والأعوام والشوق في ازدياد، أشتاق إليه واقفا بالديار وعرصاتها، وأغتدي والطير في وكناتها، وأرضى بكل ما يصلني منه متقبلا له في ارتياح وبشاشة، أرى الناس يرجون الربيع، وإنما ربيعي الذي أرجو فيه نوال وصاله، وأرى الناس يخشون السنين، وإنما سني التي أخشى فيها سخطه وعتابه، إن مناجاته حلوة المذاق، طيبة الطعم، وإذا هجرت مناجاته وبعد عهدي بها فكل المشارب مذؤومة مدحورة، وإذا خلت منها الظواهر والبطاح فكل الموارد منبوذة مهجورة.

قالوا: تناجي ربك فهل أعطاك ما سألته؟

قلت: وهل عهدت ربي إلا معطاءا جوادا كريما، وهل إذا سألتم حاتم طيء دانقًا أو فلسًا ردكم؟ قالوا: لا، قلت: فربنا أكرم من حاتم، وكل ما سألناه أصغر من الدوانق والفلوس، فكيف يردنا خائبين؟ وربنا لا يضيق كنز نعمه، ولو أنعم على الفقراء والمساكين وصفر الأيادي إلى الأبد، وكيف لا يسقي الظماء وقد ملأ البحار ماءا؟ لا ينقص من جوده عطاؤه القليل والكثير، يعفو عن قبيح الأفعال يوم الجزاء، وما لي شافع إليه سواه.

قالوا: كم تناجيه؟

قلت: أناجيه فلا أشفى، وأنسى أن أعد كم ناجيته فلا أتأسف ولا آسى، لأنه ذاكر لا ينسى، وأتغنى بمدحه بلساني إذا تكلمت، وبجناني إذا سكت، فلا يقر لي قرار دون ذكره، أناجيه في غناي وفقري، وسعتي وضيقي، وحركاتي وسكناتي، ومنامي ويقظاتي راغبا إليه راهبا، حمده روحي وذكره حياتي.

فبادروا إليه لائذين به، وتوبوا إليه متقين حاذرين، وأنيبوا إليه منتهين عن الزلات مرعوين، فمن وجده لم يفقد شيئا، ومن فقده لم يجد شيئا، ومن علمه لم يجهل شيئا، ومن جهله لم يعلم شيئا، فلا ترضوا من دونه بدلا ولا تبغوا عنه حولا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين