كلمة بمناسبة المولد الشريف ـ 2 ـ

الشيخ : أحمد النعسان


بسم الله الرحمن الرحيم


مقدمة الكلمة:


الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام: يا من اجتمعتم في بيت من بيوت الله عز وجل في ذكرى مولد الحبيب الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد بني آدم, سيد أهل الدنيا والآخرة, سيد الأنبياء والمرسلين, اعلموا بأن هذا الاجتماع وأمثاله لا لنرفع ذكر الحبيب الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, بل لنرفع ذكرنا وقدرنا عند الله عز وجل, لأن الذي رفعه الله تعالى لا يستطيع أحد أن يزيد في رفعته, ولقد قال الله تبارك وتعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك}. فهل بعد رفع الله تعالى له صلى الله عليه وسلم رفع؟
يحكى أن الطاغية هولاكو سأل أصحابه: من الملك؟ فقالوا له: أنت الذي دوَّخت البلاد, وملكت الأرض, وطاعتك الملوك, وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن.
فقال: لا, الملك هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة قد مات, وهو يذكر على المآذن في كل يوم وليلة خمس مرات.
أقول أيها الإخوة: ما صدق هولاكو في قوله, لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ملكاً, هو صلى الله عليه وسلم فوق الملوك, لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: (أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرَ, وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلا فَخْرَ, وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ,  آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ,  إِلا تَحْتَ لِوَائِي, وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلا فَخْرَ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
بل أقول: إذا أرادت الملوك السعادة فلا يسعهم إلا اتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم. هذا أولاً.
ثانياً: ما صدق هولاكو في قوله بأنه صلى الله عليه وسلم يذكر على المآذن في كل يوم وليلة خمس مرات, لأن النبي صلى الله عليه وسلم يُذكر على المآذن ويصلى ويسلم عليه في كل جزء من أجزاء الثانية على مرِّ الأيام والدهور, لأنه ما من لحظة إلا وهناك شروق للشمس وغروب, وهذا يعني في كل جزء من أجزاء الثانية هناك مؤذن وهناك مصلٍّ.
رفعة النبي صلى الله عليه وسلم:
أيها الإخوة الأحبة: هذه الشخصية العظيمة التي رفعها الله تعالى فوق الناس جميعاً, كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}. هذه الشخصية العظيمة ما عرفت الاستكبار والاستعلاء والتسلُّط والهيمنة على الناس, بل ما عرف صلى الله عليه وسلم ذلك على من آمن به وصدقه واتبعه وأحبَّه.
هذه الشخصية العظيمة علَّمت أتباعها الصدق والصراحة وعدم النفاق, لأن الأمة لا تكون متماسكة إلا بالصدق فيما بين أفرادها, أما الكذب والنفاق فيجعلها متمزِّقة متفرِّقة.
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رفعه الله درجات فوق الناس وفوق خاصة الخاصة من الأنبياء والمرسلين لم يستغل هذا الرفع ـ وحاشاه من ذلك ـ لشخصه الشريف مع كونه معصوماً, بل كان صلى الله عليه وسلم قمَّة في التواضع, وفاتحاً صدره للخلق جميعاً بحيث كان يستوعب الجميع, وإذا اعترض عليه معترض سمع له وعالجه, وإذا وجد أحد في نفسه عليه شيئاً لسبب من الأسباب عالجه له وطهَّر له قلبه, لأن هذه مهمته صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين}.
فإذا لم يمكِّن النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه من الصدق والصراحة معه صلى الله عليه وسلم ـ مع علو قدره عليهم جميعاً ـ لما تحقَّقت الغاية التي بعث من أجلها, وهي تزكية نفوسهم.
رُفعنا درجة سكرنا بها:
أيها الإخوة الكرام: ربنا عز وجل يقول: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. جعل رسالته في رجال معصومين, ورفع بعضهم فوق بعض, ورفع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل مرفوع من الخلق درجات, وليس درجة واحدة, فكان صلى الله عليه وسلم مثالاً رائعاً في التواضع وعدم استغلال هذا الرفع في الهيمنة والتسلُّط على المرفوعين.
أما الرجل منا, فقد رفعه الله تعالى درجة واحدة على المرأة, ولم يرفعه على الناس جميعاً درجة, بل رفعه درجة واحدة على زوجته, فقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. هذه الدرجة أسكرت الكثير من الرجال, فصار حاله حال الفراعنة في بيته على زوجته, وصار لسان حاله يقول: ما أريكم إلا ما أرى, ويقول بلسان الحال: أنا ربكم الأعلى. ويقول صراحة: كلامي لا يجوز أن ينزل على الأرض.
درجة واحدة أسكرته وهو يعلم بأنه ليس معصوماً, وهو يعلم قول الله تبارك تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. ويعلم قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}, فرُبَّ امرأة أكرم عند الله من زوجها, ويعلم قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. ومع كل ذلك سكر بهذه الدرجة مع عدم عصمته.
أما الحبيب الأعظمُ صلى الله عليه وسلم, أفضلُ الناس على الإطلاق دنيا وأخرى, وسيدُ الأنبياء والمرسلين, والمعصومُ, فما أسكرته تلك الدرجات التي رفعه الله تعالى بها على خاصة الخاصة من الأنبياء والمرسلين.
موقفه صلى الله عليه وسلم من الأنصار يوم حنين:
أيها الإخوة الأحبة: إن الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي رفعه مولانا عز وجل على الأنبياء والمرسلين درجات كان كالشجرة المثمرة, كلَّما عَظُم حملها ازدادت تواضعاً وانحناءً حقيقة لا ادعاء, هكذا كان الحبيب صلى الله عليه وسلم, وما كان يستغلُّ هذا الرفع في الهيمنة على أصحابه وأتباعه, وكان الصحب الكرام رضي الله عنهم في منتهى الصدق والصراحة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا وجدوا في أنفسهم شيئاً صرَّحوا به بدون تردد, واستمعوا إلى هذا الموقف العظيم الذي يحمل في طياته صدق التابع مع المتبوع, والذي يحمل في طياته رحمة المتبوع بالتابع.
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ, وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ, حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ, حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ, فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ, قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ, وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الأَنْصَارِ شَيْءٌ.
قَالَ: (فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ)؟
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي وَمَا أَنَا.
قَالَ: (فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ).
قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ, قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا, وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ, فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الأَنْصَارِ.
قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ, وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ, وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ, وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)؟
قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ.
قَالَ: (أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ)؟
قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ.
قَالَ: (أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ, وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ, وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ, وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ, أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ؟ أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ, وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ, اللَّهُمَّ ارْحَمْ الأَنْصَارَ, وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ, وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ).
قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ, وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا, ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا.
هل هناك صدق وصراحة بين التابع والمتبوع أعظم من هذا الصدق والصراحة؟
أين هذا الصدق والصراحة بين التابع والمتبوع في وقتنا هذا؟ أين هذا بين الحاكم والمحكوم؟ أين هذا بين الأستاذ وطلابه؟ أين هذا بين الوالد وولده؟ وبين الزوج وزوجته؟ أين هذا بين المدير وموظفيه؟ أين هذا بين جميع شرائح المجتمع؟
إنه وبكلِّ أسف ظهر عوضاً عن الصدق والصراحة الكذبُ والنفاقُ, كذب التابع على المتبوع, وهيمنة المتبوع على التابع,  والكثير من المتبوعين لسان حالهم ما أريكم إلا ما أرى, لذلك ترى المجتمع متمزقاً متفرقاً, تراهم جميعاً وقلوبهم شتى.
إذا أردنا التماسك يا أصحاب ذكرى المولد فعلينا بهدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إعجابنا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخرنا به بدون اتباع لسيرته العطرة لا يُسمن ولا يغني من جوع, يا أيها المرفوع على الغير, يا أيها المتبوع من قبل الآخرين, اخفض جناحك لأتباعك ولا تغترَّ بهذا الرفع, لأن هذا الرفع في حقيقته اختبار وابتلاء لك, ألم يقل مولانا عز وجل: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ}.
وأما أنت أيها التابع فكن صادقاً صريحاً أديباً مع متبوعك, ولكن بدون نفاق بدون كذب, تأسَّ بأصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ما قالة بلغتني عنكم؟
أيها الإخوة الكرام: نعم, لقد ربى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على الصدق والصراحة, لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أجساداً حوله, بل يريد قلوباً, لا يريد كمَّاً, بل يريد نوعاً, يريد رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه, كلنا عبيد لله تعالى.
سأل النبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بن عبادة: (فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ)؟
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي وَمَا أَنَا.
قَالَ: (فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ).
قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ, قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا, وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ, فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الأَنْصَارِ.
قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ, وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ, وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ, وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)؟
قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ.
لقد ذكَّرهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله عز وجل عليهم الذي ساقه الله تعالى إليهم بسببه هو صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: (أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ)؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. قَالَ: (أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ).
من يفعل هذا مع تابعه؟ إنه الوفاء من المتبوع, ألم يقل مولانا عز وجل: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}؟
قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ.
قَالَ: (أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ, وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ, وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ, وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ).
ما هذه العظمة ممن رفعه الله تعالى على سادة الوجود من الأنبياء والمرسلين.
لماذا نعطي الدنية في ديننا؟
أيها الإخوة الكرام:إن رفعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء والمرسلين لم تزده إلا تواضعاً, وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد, آكل كما يأكل العبد, وأجلس كما يجلس العبد) رواه البيهقي وعبد الرزاق.
وعندما كان صلى الله عليه وسلم متحقِّقاً بذلك صدق الصحب الكرام مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا يتكلمون بكل صراحة ما يجول في خواطرهم, فهذا سيدنا عمر رضي الله عنه في يوم الحديبية, رأى الشروط القاسية على المسلمين, يقول: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: (بَلَى), قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: (بَلَى), قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ, وَلَسْتُ أَعْصِيهِ, وَهُوَ نَاصِرِي), قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: (بَلَى, فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ), قَالَ: قُلْتُ: لا, قَالَ: (فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ) رواه البخاري ومسلم.
هل تغير رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه المقالة؟ هل غضب سيدنا عمر رضي الله عنه؟ قطعاً لا, ثم ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قضية الإيمان, فقال له: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ, وَلَسْتُ أَعْصِيهِ, وَهُوَ نَاصِرِي).
إلا من نفسي التي بين جنبي:
أيها الحفل الكريم: صورة أخرى من صور صدق الصحابة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رفع الله تعالى ذكره على جميع المخلوقات.
روى البخاري عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ), فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الآنَ يَا عُمَرُ).
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها المحتفلون بذكرى مولد سيد الوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جسِّدوا فرحكم بهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم من خلال إحياء سيرته العطرة فيكم, جسِّدوا سيرته صلى الله عليه وسلم سلوكاً وعملاً, بسيرته العطرة وبالالتزام بها نكون كالجسد الواحد, نحن بحاجة إلى صدق فيما بين بعضنا البعض, ولسنا بحاجة إلى مدح وثناء مبنيٍّ على أساس من الكذب والنفاق.
اللهم وفِّقنا لمتابعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحوالنا آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين