فقه الثبات

حقيقة يغفل عنها كثير من الناس في زماننا وهي أن الله سبحانه لم يطالبنا بأن نكون مثل الأعداء في القوة والعدد والعتاد حتى ندخل المعركة معهم ، وإنما أمرنا بأن نبذل جهدنا في ذلك وما نستطيع فقال سبحانه:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُم)

(وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُون)

فإن كانت طاقتنا لا تمثل شيئاً أمام القوة الرهيبة التي يمتلكها الأعداء فما العمل؟ 

الإجابة هي في قول الله سبحانه وتعالى : ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) البقرة 249 .

تسلط الآية الكريمة الضوء على قضية مهمة في حياتنا ، هي قضية (الكم والكيف) ، وعلى العلاقة الجدلية بينهما ؛ فحين خرج طالوت لحرب جالوت خرجت معه الألوف المؤلفة من الجند (كم) فأراد أن يعرف نوعية الرجال الذين سيقاتل معهم فابتلاهم بالشرب من النهر ، فشرب منه السواد الأعظم منهم ، ولم ينجح في ذلك الامتحان سوى ثلاثمائة وبضع عشر رجلاً - كعدة أصحاب بدر - وكان موقف هذه القلة القليلة من جيش جالوت الموقف الذي يتناسب مع كيفهم ، فقالوا : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ ) ، هذه الفئة القليلة هي الغالبة لما نالت من تأييد الله ونصره ؛ لنصرها دينه واستحواذها على شروط النصر . 

وفي ختام الآية : (واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) إشارة إلى أن هذه الفئة كانت تتحلى - في جملة ما تتحلى به - بالصبر الضروري لمجالدة العدو .

هل من الحكمة عندما يتمكن العدو من محاصرة المسلمين والتضييق عليهم ، أن يقوم المسلمون بتسليم أنفسهم حقناً للدماء ! لو كان هذا من الحكمة لما صبر النبي هو وثلة قليلة من أصحابه ثلاث سنوات في شعب أبي طالب ، وكانوا يستطيعون أن يهادنوا الكفار ليفكوا الحصار عليهم . 

هذه الحقيقة وهذا البعد الإيماني في معركة أمة الإسلام الذي انطمس في نفوس بعض المسلمين ونسيه البعض الآخر أدركه أعداؤنا وهم يحاولون أن يطمسوه في قلوب عباد الله المؤمنين من خلال استعراضهم لقنابلهم النووية وأساطيلهم البحرية وسفنهم الفضائية ، وكم من المسلمين بُهروا بتلك القوة والأسلحة وظنوا بأن أعداءهم قوة لا تقهر وأنه لا غالب لهم. مثل هذا الشعور سيطر على بني إسرائيل يوم أن دعاهم موسى لإخراج أعداء الله من الأرض المقدسة فقالوا :(قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)ولكن من نور الله قلوبهم بالإيمان وعرفوا أن النصر من عند الله كان لهم رأي آخر وموقف آخر:(قَالَ رَجُلَانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَللَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)

مثل هذا الشعور سيطر على جمع من جيش طالوت(فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)ولكن الفئة التي عرفت أن النصر من عند الله كان جوابها:(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)

يختم الله الآية بقوله ( والله مع الصابرين ) فبالصبر والمصابرة والثبات ، يكون النصر . 

وفي موضع آخر يؤكد لنا على أهمية الصبر :(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين).

إن النصر لا يكون بالعوامل المادية فقط إلا إذا تساوى الطرفان فإذا تقابل كافر مع كافر ففي هذه الحالة تكن الغلبة للأكثر عدة وعتاداً و الأدق تنظيماً أما إذا تقابل المؤمن مع الكافر فإن الميزان يختلف ، ولو كان لكثرة العدد والعتاد دور رئيس في النصر لانتصر المسلمون في يوم حنين حينما بلغوا من الكثرة حتى قال بعضهم لن نغلب اليوم من قلة فماذا حدث ؟ استمعوا إلى ربكم يقص عليكم الخبر في آيات خلدها ليوم القيامة لتكون عبرة للمتعلقين بكثرة العدة والعتاد حيث قال سبحانه:(لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْككُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)

ولو كان للعدد والعتاد دور في النصر في معركة المؤمنين مع الكافرين لأباد جيش جالوت طالوت ومن معه ولو كان للعدد والعتاد دور في النصر في المعركة لأباد جيش قريش المسلمين في بدر فقد كان يفوقهم ثلاثة أضعاف العدد وقرابة عشرة أضعاف في العتاد ، لو كان للعدد والعتاد دور في نصر المؤمنين على الكافرين لما قال الله:(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(5)ولما حدث للمسلمين ما حدث في أحد ،و لم يرجع الله ذلك إلى قلة عددهم أو ضعف خططهم وإنما أعاد ما أصابهم إلى المعصية وحب الدنيا واستمعوا للعليم الخبير يخبرنا عن ذلك بقوله:(وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُممْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

هيهات. هيهات. فنصر الله عز وجل حليف من نصره ونصر دينه . في غزوة مُؤتَة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان أولُ صِدامٍ بين المسلمين والصليبيين رومِ بيزنطة . كان المسلمون ثلاثة آلاف، وكان الروم مائة ألف يؤازرهم مائة ألفٍ مِن حلفائهم العرب .

أما من يقول بأن هذا كان في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – والله أيدهم ببركة النبي . فلقد تكرر نصرُ الله عبادَه في موقِعاتِ كثيرة تصديقا لقوله تعالى : (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)

في 22 يوليوز 1921م قامت حرب بين الجيش الأسباني المحتل وجيش المقاومة الإسلامي بقيادة القائد العبقري عبد الكريم الخطابي في المغرب في قرية “أنوال” المغربية 

كان عدد المقاومين المسلمين المغاربة 3 آلاف لايملكون سوى أسلحة بدائية بقيادة الامير المجاهد القاضي “محمد بن عبد الكريم الخطابي” داهية الحروب .

– كان عدد جنود جيش الاحتلال الأسباني بين 30 ألف الى 60 ألف جندي مجهزين بأسلحة متطورة ..

أي أن عدد الجيش الأسباني 10 أضعاف أو 20 ضعف عدد عناصر المقاومة وبأسلحة أكثر تطورًا وفتكًا، المعجزة التي حدثت أن جيش المقاومة إنتصر وقتل 18 الف وأسر عشرات الآلاف وتم قتل قائد الأسبان “الجنرال سيلفستري” وقام الأسبان بعد ذلك بتسمية هذه الحرب بـ “كارثة أنوال”.

أكان الرُّماة المجاهدون ماهرين مهارة استثنائية؟ نعم.

لكن كانت هنالك فاعلية أخرى. قال ابن عبد الكريم الخطابي بعد الموقعة : «إن عناية الله قبلَ كل شيء وبعد كل شيء كانت معنا ."

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

اثبتوا ، هو أمر الله تعالى مهما كان العدو فيما يبدوا قوياً .

اثبتوا : هو أمر الله تعالى حتى لو ارتكبت مجازر وارتقى شهداء ، فهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهذه إرادة الله لحكمة هو أعلم بها ، ورحمته وسعت كل شيء .( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون)

اثبتوا ، هو أمر الله تعالى مهما طال الظلم ومهما تحالف الأعداء على المسلمين وتآمروا على الإسلام ، يأبى الله إلا أن يتم نوره لو كره الكافرون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين