العيد

سنَّ الإسلام للمسلمين في كل عام عيدين: عيد الفطر إذا انتهى رمضان وأفطروا بعد الصوم، وعيد الأضحى إذا وقفوا بعرفة وأتموا مناسك الحج.

وسنَّ لهم في كل عيد ما يَنبغي أن يحيوه به، وما ينبغي أن يؤدوه فيه.

وفي سنِّ الإسلام هذين العيدين وفيما شَرعه لإحيائهما والابتهاج فيهما حِكم بالغة، ودروس نافعة، لو عني المسلمون باستلهامها والانتفاع بها.

فأول ما ننبِّه المسلمين إليه: أنَّ الإسلام ما سنَّ عيد الفطر إلا عقب أداء فريضة الصيام، وما سنَّ عيد الأضحى إلا عقب أداء فريضة الحج.

وفي هذا هدي إسلامي إلى أمرين: 

أحدهما: أنَّ أحق الأيام التي يجدر بالمسلمين أن يتخذوها أعياداً هي الأيام التي تعقب قيامهم بالواجب عليهم لربهم، وتوفيقهم لتثبيت قواعد دينهم، وخاصَّة إذا كان الواجب الإلهي فيه عليهم بعض المشقَّات البدنية كالصوم، أو البدنية والمالية كالحج.

فهذه الفرائض التي فرضها الله تعالى على المسلمين هي قواعد الإسلام وشعائره، وهي مظهر شخصية المسلمين، فالقيام بها أجلُّ نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم، وأجدر أن تكون بعدها أيام أعياد.

فليعتبر بهذا المسلمون، ولتكن أيام ابتهاجهم وأفراحهم هي الأيام التي يفرغون فيها من أداء واجباتهم لربِّهم، ولأنفسهم، ولوطنهم، فإنَّ من جاهد وكافح وتعب في سبيل أداء الواجب عليه هو الجدير بأن يفرح قلبه وتبتهج نفسه.

فكل عيد من العيدين هو شكر لله تعالى على توفيقه ومعونته لأداء الواجب، وهو فرح وابتهاج بالفوز والنجاح في هذا الامتحان الشاقِّ الذي امتحن الإنسان به، أي: أن كل عيد منهما هو عيد الشكر على تثبيت قواعد الإسلام، وعيد النجاح في امتحان إلهي اختبر الله سبحانه به صدق إيمان المؤمن، ومبلغ طاعته لربه، وقهره نفسه في سبيل رضاه.

وثانيهما: أنَّ الإسلام كما سنَّ النظم للعمل والكفاح والجهاد، سنَّ النظم للراحة والفرح والسرور، فهو دين التكليف، ودين الترفيه والتخفيف، وكما شرع أحكام العزيمة شرع أحكام الرخصة، وهي أحكام شرعت لبعض المكلفين في بعض الحالات تخفيفاً عليهم، ورفعاً للحرج عنهم، فلما كلَّف المسلمين بالصوم واحتملوه على ما فيه من مشقة، سنَّ لهم بعده العيد للفرح والابتهاج، وكذلك لما كلَّف المسلمين بالحج واحتملوه على ما فيه من مشقَّة، سنَّ لهم بعده العيد للفرح. 

وهذه الروح: تتجلى بأجلى مظاهرها في تشريع الإسلام، وفي سن النظم، ففي الإسلام الأصل في الأشياء الإباحة، ولا يحرم على المسلم إلا ما فيه إضرار بدينه، أو بدنه، أو عقله، وفي الإسلام الضرورات تبيح المحظورات، والحرج مرفوع، والمشقة تجلب التيسير، ولا تكلف نفس إلا وسعها.

فالذين يَتزمَّتون ويتشددون ويصورون الإسلام بأنَّه مجموعة مشقَّات، وأنه يأبى مظاهر الفرح والمسرات، ويقضي بأن يكون المسلم دائماً حزين النفس مُقطَّب الوجه، هؤلاء يصوِّرون الإسلام بغير صورته، ويغفلون عن أهمِّ الأسس التي بُني عليها، فالله تعالى أراد بالمسلمين اليسر لا العسر، وأراد التخفيف عنهم لا الإشقاق عليهم.

وحيثما يشق على المسلمين تكليف شرع لهم ما يدفع المشقة عنه. 

وحيث يقضون أياماً في عناء القيام بالواجب شرع لهم العيد ترفيهاً عنهم.

والرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن البخل والجبن، ومن غلبة الدين وقهر الرجال، والله سبحانه قال في كتاب الكريم: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ] {الأعراف:32}. 

وأما ما سنَّه الإسلام لإحياء العيد والابتهاج فيه، فهو شعائر لخير الفرد، ولخير المجتمع، فلم يوجب الإسلام في عيد من العيدين إقامة الزينات، ولا رفع الأعلام، ولا صرف المال فيما لا يعود بفائدة، وإنما أوجب إحياء كل عيد منهما بالصلاة وبالصدقة.

فالإسلام سنَّ للمسلم في يوم العيد أن يَغتسل ويَتطيَّب، ويلبس أحسن ثيابه، ويتوجَّه إلى المصلى، وفي المصلى يجتمع المسلمون في أحسن ثيابهم، وأطيب رائحة لهم، يعبدون إلهاً واحداً، ويتجهون إلى قبلة واحدة، مُكبرين مُهللين، وفي هذا كله ما ينسيهم مَتاعبهم وخصوماتهم، ويذكرهم بأخوتهم، ووحدتهم، فتتصافح قلوبهم وأيديهم، وتتصافى نفوسهم ووجوههم، وتكون صلاة العيد في هذا المصلى فرصة لتأليف القلوب، وتناسي الأحقاد، وتبادل التهاني الخالصة، والتمنيات الطيبة.

وصلاة العيد ركعتان، فالركعة الأولى يَبدؤها المصلي بتكبيرة افتتاح الصلاة، ثم يكبر بعدها ثلاثاً، ثم يقرأ الفاتحة وسورة، ثم يكبر ويركع ويسجد، وإذا قام إلى الركعة الثانية يبدأ بقراءة الفتاحة وسورة، ثم يكبر ثلاثاً، ثم يكبر تكبيرة الركوع ويتم ركعته.

فهي ركعتان يَزيد فيهما عدد التكبيرات لإظهار أكبر شعار للمسلمين، وهو أنَّ الله تعالى أكبر وأعظم من كل ما سواه، فلا خضوع إلا له، ولا ألوهية إلا له سبحانه.

والإسلام أوجب على المسلم في عيد الفطر أن يتصدَّق بصدقة الفطر، وأوجب في عيد الأضحى أن يتصدَّق المسلم من أضحيته، والمقصود أن يكون يوم العيد يوم بر بالفقراء، وأن يشترك في الابتهاج بالعيد الفقراء والأغنياء، والقادرون والعاجزون، وأن تختبر نفسيَّة الصائم ويظهر مبلغ تأثير الصيام في نفسه، ونفسية الحاج ويظهر مَبْلغ تأثير الحج في نفسه، فالبر بالفقراء وإسداء المعونة إلى المحاويج هما أثر العبادة الحقيقيَّة التي طهَّرت النفس من الشح والبخل والقسوة والأنانيَّة.

وكما راعى الإسلام في يوم العيد جانب الفقراء، راعى جانب الأغنياء، فلم يرهقهم بواجب شاقٍّ، وصدقة الفطر هي صاع من القمح أو الذرة أو الشعير، أو أي قوت يكون هو الغالب في بلد المتصدق، والصاع قدره قدحان وثلث قدح، أي أنَّ الكيلة تكون صدقة عن ستة أشخاص، والواجب على رب الأسرة أن يخرج هذه الصدقة عن نفسه وعن زوجته وعن أولاده وعن خدمه ومن يعولهم.

ويباح له أن يخرج القيمة بل إخراج القيمة في بعض المذاهب أفضل، والتصدق من الأضحية في عيد الأضحى لم يحدد الشارع له مقداراً معيناً، بل ندب إلى أن يجعل الغني للفقراء نصيباً من لحم أضحيته كما تطيب نفسه.

والحق أنَّ للإسلام حكمةً بالغة في سَنِّ الأعياد، وفي اختيار الوقت الذي يكون عيداً، وفي الشعائر التي تحيا بها الأعياد، وفيها كلها آيات ناطقة بأنَّ الإسلام دين تكليف، ودين تخفيف، وأنَّه للعمل والجهاد، وللفرح والابتهاج، وأنه اغتنم كل مناسبة لتأليف قلوب المسلمين بالجماعة في الصلاة، وللإحسان إلى الفقراء وسدِّ حاجاتهم، وفي هذا خير علاج لأفراد المسلمين وجماعاتهم، ووقاية من أمراض الفقر وخواطرِ السوء التي تحيط بالفقراء.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثاني، المجلد التاسع، شوال 1374 مايو يونية 1955).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين