قَواعدُ السِّياسَةِ الشَّرعيَّةِ (6) في تقديمِ وُجودِ الدَّولةِ المُسلِمةِ ومَصالحِها على إِقامةِ الحُدود

المبحث الخامس

الأناةُ والتَّدرّجُ في إقامةِ الشَّريعة

إن القارئ في مسيرة التشريع الإسلامي يعلم أن الأناة والتدرج أساسان مهمان من أسس الدعوة لم يستغن عنهما الإسلام في مرحلة من مراحله، إذ لم ينزل القرآن دفعة واحدة ولم تحرم الخبائث كلها بنص واحد، كما لم تنزل الفرائض جميعا في يوم واحد ولو أراد الله ذلك لكان... ولعل في مهام وأهداف الدعوة الإسلامية في كل من المرحلة المكية والمدنية أوضح دليل على ذلك...

والتدرج في قضية تحريم الخمر وزواج المتعة - كنماذج لهذا القانون الإلهي - أشهر من أن يحتاج لذكرهما هنا... ولكن ظهر اليوم من دعاة التكفير وغيرهم من يدعون إلى إقامة الدين كلِّه على الناس جميعِهم دفعةً واحدةً دون اعتبار لتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم أو نظر في مآلات الأمور ونتائجها، ويَدَّعون أن مبدأ التدرج لا يعدو أن يكون تشريعًا بالرأي وتقديمًا للعقل على النقل، وأنه لا قيمة له بعد قول الله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: الآية 3].

والحقيقة أن الاستدلال بآية إكمال الدين على إنكار اعتبار التدرج في الشرع والواقع نوع من تحميل النص ما لا يحتمله، إذ لا يعني تمام علم ما (كالجبر والهندسة) أنه يجب أن يُعطى دفعةً واحدةً لطالب مبتدئ في السنة الأولى احتجاجًا بكونه علمًا متكاملًا، وعلى الجهة المقابلة لا يستقيم إنكار أجزاء أصيلة من علم الرياضيات وبترها منه بحجة أن عقل الطالب لا يستسيغها في هذه الفترة، وهذا حالنا اليوم بين طرفي النقيض "التكفيريين والحداثيين" كلاهما تطرَّف في فهمه للدين فأخطأ الطريق وضلَّ وأضلَّ خلقًا كثيرًا.

وقد أكدت السيدة عائشة رضي الله عنها هذا المبدأ الإسلاميَّ العظيم في مراعاة أحوال الناس عندما قالت: ((إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنه - أي القرآن - سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ لاَ تَزْنُوا لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا))(1).

ومع هذا سأتجاوز مسألة التدرج لنستمع لقوله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: آية 286] ولقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [سورة التغابن: آية 16] إن الآياتِ واضحةٌ في وجوب الإتيان من الشرع ما استطعنا وعدم تكليفنا ما لا نستطيع، وقد أخذ العلماء من هذه الآيات وغيرها القاعدة الفقهية الشهيرة (ما لا يدرك كله لا يترك كلُّه أو جلُّه)... فيجب الإتيان بالمستطاع من التكاليف الشرعية ما يختص منها بعلاقة المرء مع ربه، أو ما ينظم علاقته بالآخرين، ولا بد عند العمل بقاعدة الاستطاعة أن نعتبر قواعد الشرع الأخرى ونلاحظ تعلقها بتقرير أحكام الوقائع التي تعرض لنا في حياتنا، كقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وكقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وكقاعدة (يختار أهون الشرين) وقاعدة (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) وغيرها.

ولنستمع لهذا الحوار بين خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وابنه عبد الملك لنتعرف على منهج السلف في تحكيم الشرع والقيام بأوامر الله سبحانه... (دخل عبد الملك بن عُمَر بن عبد العزيز على أبيه وقال له: يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غدًا إذا سألك! فقال: رأيت بدعةً فلم تمتها أو سنّة لم تحيها؟ فقال له: يا بنيّ أشيء حمَّلتْكَهُ الرَّعيَّة إليَّ أم رأيٌ رأيتَه من قبل نفسِك؟ قال: لا والله! ولكن رَأْيٌ رأيتُه من قبل نفسي وعرفتُ أنك مسؤول، فما أنت قائل؟ فقال له أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيرًا، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير يا بني، إن قومك قد شدُّوا هذا الأمر عقدةً عقدةً وعروةً عروةً! ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقًا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليَّ من أن يهراق في سببي محجمة من دمٍ، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيّام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعةً ويحيي فيه سنةً حتى يحكمَ الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين)(2).

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (فَلِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ وُضِعَتِ الْعَمَلِيَّاتُ عَلَى وَجْهٍ لَا تُخْرِجُ الْمُكَلَّفَ إِلَى مَشَقَّةٍ يَمَلُّ بِسَبَبِهَا، أَوْ إِلَى تَعْطِيلِ عَادَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صَلَاحُ دُنْيَاهُ، وَيَتَوَسَّعُ بِسَبَبِهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يُزَاوِلْ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْعَقْلِيَّةِ -وَرُبَّمَا اشْمَأَزَّ قَلْبُهُ عَمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ مُعْتَادِهِ - بِخِلَافِ مَنْ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عَهْدٌ، وَمِنْ هُنَا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَرَدَتِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ فِيهَا شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَمْ تَنْزِلْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهَا النُّفُوسُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَفِيمَا يُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تُنَفِّذُ الْأُمُورَ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ! قَالَ لَهُ عُمَرُ: (لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّي أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جملة، ويكون من ذا فتنةً...) وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الِاسْتِقْرَاءِ الْعَادِيِّ)(3).

وجاء في سيرة عمر بن عبد العزيز عند أبي محمد عبد الله بن عبد الحكم قال: (لما ولي عمر بن عبد العزيز قال له ابنه عبد الملك: إني لأراك يا أبتاه قد أخرت أمورًا كثيرة كنت أحسبك لو ولّيت ساعةً من النَّهار عجلتها، ولَوَدِدْتُ أنك قد فعلت ذلك ولو فارت بي وبك القدور! قال له عمر: أي بنيّ! إنك على حُسنِ قَسمِ الله لك، وفيك بعضُ رأيِ أهلِ الحداثةِ، واللهِ ما أستطيعُ أَنْ أُخرجَ لهم شيئًا من الدين إلا ومعه طرفٌ من الدنيا أستلين به قلوبهم؛ خوفًا أن ينخرق عليَّ منهم ما لا طاقة لي به)(4).

النتائج

1- أحكام الحدود والقصاص جزء من تشريع الإسلام لا ينكرها عالم متفقه على منهج أهل السنة والجماعة، وإنما ينكرها أهل الأهواء أو الضعفاء ممن وقعوا تحت ضغط الشبهاتِ، ولا علم لهم بقواعد استنباط الأحكام الشرعية ليدافعوا بها عن دينهم.

2- النتائج التي وصل إليها المتطرفون لا تمت إلى الإسلام بصلة، لأنها لا تعدو أن تكون اجتزاءً للأدلة وإخراجًا لها من سياقها.

3- كل واحدة من المسائل الشرعية هي عبارة عن وحدة متكاملة مكوَّنة من مجموعة من الأجزاء المترابطة فيما بينها ترابطًا لا انفكاك فيه، فإذا ما حُكم على مسألة ما من غير إحاطة شاملة بكل ما ورد فيها من أدلة خاصة وما ينطبق عليها من قواعد عامة؛ فسيكون الحكم ناقصًا وبعيدًا عن مراد الشرع الكريم.

4- القواعد الفقهية هي الحاكمة على قوانين الشريعة الجزئية، ولا حكم بدون اعتبارها وعرض الوقائع عليها.

5- في السيرة النبوية وتاريخ خلفائنا كفايةٌ للتعرف على منهج الإسلام في سياسة الأمة وإدارة شؤونها ومنها قضايا الحدود.

6- بعض أمور السياسة والحكم لا يجوز الحديث بها أمام العامة لعدم توجه الخطاب إليهم فيها، ومنعا من إثارة الفتن.

7- الله كلفنا بما نستطيع ولم يكلفنا فوق طاقتنا، ومن يكلف نفسه فوق طاقته يخرج عن منهج الله ويخسر دينه ودنياه.

8- الإسلام جاء لسعادتنا فإذا شَقِيت المجتمعات المسلمة فالسبب هو تخلفها وفهمها الخاطئ للدين وليس الإسلام.

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

خاتمة

كتب الفقه أو السنة لا تكفي قارئها ليصبح فقيهًا أو عالمًا، فمن اكتفى بالقراءة والحفظ لا يعدو مَثَلُهُ آلةَ الحاسوب، يخزن المعلومات ثم يخرجها لا فقهَ ولا فهمَ... وإنما على المتفقه أن يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير خلفائه الراشدين ومناقب السلف والأئمة المجتهدين والعلماء العاملين بقصد الاستفادة لا بغرض النقد والتنقص، ثم يثني بقراءة كتب القواعد الفقهية لأنها هي الحاكمة على ما قرأه في كتب الفقه، كما أنه لا بد له من قراءة علم أصول الفقه ليعرف كيف وصل المجتهدون إلى الأحكام، فلا يتهمهم بالتفريط والحكم بغير ما أنزل الله كما يفعل حدثاء الأسنان، ولا يقوده رأيه إلى ما يخرجه عن قواعد فهم النصوص عند أهل السنة كما يفعل دعاة الحداثة... ثم بعد ذلك يتفكر في سنن الله في نشوء الأمم وسقوطها وقراءة تواريخها كما أمر الله بذلك في كتابه، لعله يدرك علم ترتُّبِ النتائج على الأسباب ضمن قانون الله في خلقه، والذي أثبته بقوله {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: الآية 20]... عندما يسير الإنسان في هذا الطريق بصحبة أهل العلم والصدق لن تلتبس عليه الأمور ولن تسقطه شبه الملحدين كما لن تُغشي عينيه استدلالات المتطرفين ولا شُبَهُ المفرِّطين... نسأل الله سبحانه التوفيق والهداية لكل المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

الحلقة السابقة هـــنا

--------

(1) - رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن رقم الحديث (4707).

(2) - حلية الأولياء لأبي نعيم، طبعة دار الكتب العربي 1405هـ (ص 5/283)، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، تحقيق الدمرداش، طبعة مكتبة نزار الباز 2004م، (ص 180). 

(3) - الموافقات للشاطبي طبعة دار ابن عفان 1997م، (ص 2/184).

(4) - سيرة عمر بن عبد العزيز، للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الحكم، تحقيق أحمد عبيد، طبعة عالم الكتب 1984م، (ص57).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين