الرحمة حق الظالم أم المظلوم؟! ـ 2 ـ

اد. محمود أحمد الزين

 
لم تستوف المقالة السابقة الجواب عن الأسئلة التي ذكرت في أولها على لسان ناقدي التشريع القرآني، وكلها تجتمع في دائرة واحدة، هي: اتهام نظامه في العقوبات بأنه نظام وحشي كله ذبح وقطع وجلد، وأن هذه العقوبات تنال ناساً وقعوا في أخطاء يسيرة إذا قورنت بتلك العقوبات، كعقوبة القاذف بالجلد، والسارق بالقطع، أو وقعوا في أخطاء شخصية لا تضر إلا صاحبها، ولا ينبغي أن يحاسبه عليها غيره كعقوبة شارب الخمر بالجلد، ومنها عقوبات تنالهم على أمور طبيعية لا يصح أن تعتبر ذنوباً كالتصرفات الجنسية، وحتى حين تكون العقوبة منطقية بعض الشيء كإعدام القاتل تظهر في الإسلام بشكل فظيع كضرب الرأس بالسيف، بينما تقع هذه العقوبة في البلاد المتحضرة التي لم تلغها حتى الآن بصورة أقل فظاعة كالشنق أو الخنق ببعض الغازات السريعة التأثير،هكذا يقول خصوم الإسلام
إن مشكلتنا مع هؤلاء الناقدين ـ كما قدمت مراراً ـ أنهم لم يجعلوا العلم والمصلحة الحقيقية مقياساً، إنما جعلوا واقعهم ومألوفهم من الأنظمة والأفكار مقياساً لكل الأنظمة والأفكار، فما وافقه كان حضارة وتقدماً وعلماً، وما خالفه كان وحشية وتخلفاً وجهلاً، رغم أنهم مازالوا يكتشفون بين حين وآخر في قوانينهم أخطاءً فيصلحونها، وهذا يدل على أن ذلك لايصلح مقياساً، ونحب أن نذكرهم ـ قبل أن نبدأ بمناقشة انتقاداتهم ـ أن القياس الصحيح للمجتمع الحضاري: هو مقدار ما فيه من وفرة الحوائج، والأمن، والإخاء، وسمو المبدأ، وأن القياس الصحيح للنظام الحضاري والأفكار الحضارية: هو مقدار أثرها في إيجاد ذلك المجتمع، وليست قيمتها بعباراتها البراقة، ولا بأحلامها الشعرية، ولا بنظرياتها العاطفية التي ترحم المجرم، وتهمل الضحية وأمن المجتمع من حسابها.


والعقوبة القاسية إذا أدت إلى الأمن الشامل فيها جوانب من الرحمة ثلاثة:


أولها: قلة من تنالهم العقوبة؛ لأنهم إذا علموا بها أقلعوا عن الجريمة قبل الهجوم عليها فنجوا من العقاب، وقد ذكرت بعض كتب التراث أن عقوبة الرجم نفذت في خلال أربعين سنة ـ وهي العهد النبوي والراشدي ـ ست مرات فقط.


وثانيها: ـ وهو أهم ـ تقليل ضحايا الإجرام حين يرتدع المجرم خوفاً من العقوبة، فهم أحق بالرحمة ممن تحوم أفكارهم في عالم الجريمة، وإن كفوا عنها خوفاً من العقاب.
وثالثها: ـ وهو أهم الجوانب ـ حماية المجتمع من حياة القلق

والاضطراب والإجرام، والانتقام من أهل الإجرام، فإذا قيست القسوة التي تقع على المجرم النادر وجوده كانت أرحم وأفضل وأعظم تحضراً من رفق بالمجرم يؤدي إلى ضياع الرحمة من تلك الجوانب الثلاثة بلا ريب، وكان ذلك الرفق وحشية وتخلفاً؛ لأنه أثمر وحشية وتخلفاً بين أفراد المجتمع كله. بل لو قارنا بين عقوبة القاتل في الإسلام ـ الذي يضربه على رقبته بالسيف ضربة واحدة ـ وبين ما تفعله بعض النظم عندهم ـ وهو الشنق أو الخنق بالغاز ـ لوجدنا أن العقوبة الإسلامية أنسب وأرحم بالمجرم نفسه، أما أنها أنسب؛ فلأن منظر القتل الفظيع أقوى تأثيراً على نفوس المشاهدين وردعاً عن الجريمة، وأما أنه أرحم بالقاتل: فإنه يفصل الدماغ عن البدن في ثوان فينعدم الإحساس بالألم، ويسرع في إنهاء الحياة أكثر من أي طريقة أخرى من طرق القتل، وذلك بثلاثة أسباب: موت الدماغ، وتوقف التنفس، وخروج الدم من أوسع مجاريه حتى يتوقف القلب. فجمعت العقوبة الإسلامية بين رحمتين: زيادة أثر الصورة العنيفة في ردع الذي يفكر في الإجرام حتى يأمن الناس شره، وتخفيف الألم عنه بسرعة موته، فأي الطريقتين أكثر تحضراً في نظر العقلاء المنصفين؟ وأيهما أحق بالنقد؟!


أما قولهم: إن الإسلام يوقع العقوبات الشديدة على أخطاء يسيرة، إذا قورنت الأخطاء بالعقوبات، كقطع يد السارق ـ فإن سرقته مهما كبرت لا تساوي قيمة يده ـ وكجلد القاذف ـ وهو الذي يتهم الآخرين بالزنى ـ فإن إيذاء المتهمين بهذا القول مهما عظم لا يساوي ألم ثمانين جلدة. فهذا الاعتراض منهم له جوابه الذي يكشف عن خطأ الناقدين، ونظرتهم الجانبية القاصرة، فقد جعلوا قطع اليد مقابلاً للمال المسروق، وهو وهم ناتج عن عدم التفكير بنتيجة السرقة على أمن المجتمع، فاختراق الأمن وإقلاق الناس بالخوف على أموالهم هو الذي أوجب تلك العقوبة، لا الحرص على المال المسروق، ولذلك فإن الشرع جعل للمسروق حداً أدنى وهو ربع دينار، وهو مقدار غرام من الذهب تقريباً، ولم يجعل له حداً أعلى، ومتى كان المسروق بمقدار الحد الأدنى لم ينظر إليه ولم يحسب ثمنه، وهذا التوهم وقع قديماً في نفوس بعض الزنادقة، وقارنوه بدية اليد ـ حين تقطع عدواناً ـ وهو خمسمائة دينار ذهبية، وهي مقدار ألفي غرام، وصاغوا ذلك شعراً، ونسبوه إلى بعض مشاهير الشعراء فقالوا:


يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
فأجابه بعض المسلمين بقوله:


عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
والأمانة هي أساس طمأنينة المجتمع واستقراره، وليست مجرد سمو خلقي؛ ولذلك عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنها فقال: (لا إيمان لمن لا أمانة له)  والقيمة الحضارية لهذه العقوبة هي هذا الفارق الهائل بين المجتمع الأمريكي ـ وهو من أكثر الشعوب الغربية تقدماً ـ وبين بعض المجتمعات الإسلامية ـ التي بقي فيها شيء من عقوبة قطع يد السارق ـ يعبر عن هذا الفارق حادثة شهيرة: وهي أن تيار الكهرباء انقطع عن مدينة نيويورك نصف ساعة فأدى إلى سرقات كثيرة وعمليات سطو في وضح النهار، بينما يشهد كل حاج ومعتمر بعينيه أن كثيراً من المحلات التجارية في الحرمين الشريفين تغلق أبوابها عند الظهيرة وبعضها في الليل بقطعة من القماش، لا أكثر.

وإذا انتقلنا إلى انتقادهم جلد القاذف وجدنا النظرة الجانبية المحدودة نفسها، فهذه العقوبة ليست مقابل الإيذاء النفسي للمتهم حين يسمع الاتهام، ولكنها مقابل الفتنة التي تنتج عن ذلك، لا سيما أن الاتهام شديد الحساسية في منظار الإسلام، وأنه يعرض صاحبه للعقوبة الشديدة، عقوبة الزنا لو ثبت ذلك عليه، وهذا النوع من الاتهام ـ لولا العقوبة الرادعة ـ يوقع بين أفراد الأمة فتناً كثيرة، ويملأ المجتمع بالاضطراب والقلق وكثرة المشاكل، فإذا قورنت عقوبة الجلد بتلك الآثار السيئة والعواقب الوخيمة، كانت رحمة كبيرة جداً في كل الموازين الإنسانية بلا ريب، ولكن أولئك الناقدين من الغربيين وأتباعهم لا يقدرون هذه العقوبة حق قدرها؛ لأنهم لا يقدرون خطيئة الزنا وأخطارها حق قدرها، بل لا يرونه خطيئة إلا في الحالة التي يسمونها الخيانة الزوجية. أما زنا الذين لا أزواج لهم أولا زوجات لهم فهذا ليس خطيئة أصلاً، إنما هو عندهم تلبية لحاجة طبيعية، وحق من حقوق الجسد والنفس، يؤدي إهماله إلى العقد النفسية.


وهذه مغالطة عجيبة يوضحها أن الطعام حاجة جسمية أشد ضرورة، وآثار الحرمان منه أشد ضرراً على الجسم والنفس من حرمان الجنس، ومع ذلك فإنه ليس في الدنيا أحد يقول إنه ينبغي أن يكون الطعام بلا حدود ولا قيود، يأخذه الإنسان حيث يجده، بل وضع له نظاماً للبيع؛ لأن تركه بدون ذلك يؤدي إلى الفوضى والمشاكل، وكذلك إذا كانت تلبية دواعي الغريزة الجنسية ضرورة فليس الحل في فوضى الإباحية التي تحطم الأسرة، وتحرم الأطفال من عطف الآباء ورعايتهم، ومن عطف كل القرابات الأبوية، وهذا كما سبق بيانه أشد من أن يعمد الإنسان إلى والد ذلك الطفل فيقتله؛ إذ هو في تلك الحالة لا يحرم من سائر الأقارب، وهذا الطريق طريق الإباحية يحمل المرأة ـ كما تقدم ـ مسؤولية الحمل والولادة، ثم مسؤولية رعاية الطفل إذا منعتها عاطفتها من التخلي عنه، وهي أقل استعداداً للعمل جسدياً ونفسياً من الرجل الذي شاركها المتعة، وترك لها المشقة كلها.


فالزنا جريمة عظمى في حق أضعف الناس وهو الطفل، وفي أضعف أحواله وهي حالة كونه حملاً عاجزاً عن الدفاع، يرتكبها في حقه أقرب الناس إليه أبوه وأمه، وإذا كان القاتل يستحق القتل فالزاني أكثر منه استحقاقاً؛ إذ حرمان الطفل من الأب وأقارب الأب كأنه قتل لكل هؤلاء، والغريزة يمكن تلبيتها بطريق الزواج، فيكون الزنا جريمة ليس لها داع أصلاً، ولاسيما أن الإسلام يسر سبيل الزواج، ومنع ظهور جسم المرأة وما فيه من إغراء، ومنع اختلاطها بالرجال إلا عند الحاجة وبشروط خاصة، ومنع خلوتها بهم؛ لكي لا يسهل العدوان عليها، ولا يسهل خداعها، ولا انسياقها وراء الغريزة. ومن كُفي بالحلال وعوقب على الحرام لم يفكر بالجريمة إلا في أحوال شاذة، وهكذا كان واقع المسلمين حين كان القرآن سلوكهم وقيادتهم وقاضيهم.


ومشكلة أولئك الناقدين أنهم نظروا إليها من زاوية واحدة، هي تلبية الغريزة، وهو الجانب الإيجابي عندهم؛ لأن غاية الحياة عندهم هي التمتع برغائب النفس، وتركوا ذلك الجانب السلبي الأهم رغم ما فيه من مخاطر كبيرة، وهم يتحدثون دائماً عن الأمراض النفسية التي تصيب هؤلاء الأطفال في دور الحضانة، والأمراض الاجتماعية التي تصيبهم بعد الخروج منها، ولا يفكرون في أن حياتهم الإباحية هي السبب، ثم يعيبون على التشريع الإسلامي تحريم الزنا وتشديده في عقوبته، والعقل المنصف يقول: إنها أحق الجرائم بالتحريم وبشدة العقوبة؛ وذلك لشدة خطورتها مع قوة الدافع الغريزي إليها؛ ليكون ذلك رادعاً قوياً عنها، وحماية للأطفال، وهم أحق الناس بالرحمة والحماية.


إن هؤلاء يذكروننا بحال قوم لوط ـ عليه السلام ـ أولئك القوم الذين جعلوا اللواط أمراً طبيعياً، والطهر خطيئة يستحق صاحبها أن ينفى من القرية فقالوا: {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم إناس يتطهرون} [النمل/56].


وقد تقدم أكثر هذا عند الحديث عن المساواة بين الرجل والمرأة، وأعدته هنا لبيان الحكمة من هذه العقوبة الشديدة.


ترى ماذا يقول أهل العقول السليمة المنصفة: أي النظامين أكثر تحضراً؟ النظام الذي يحمي المرأة والطفل داخل أسرة، لها كل الرعاية الإنسانية، ويعاقب من ينتهك تلك الحماية عقوبة تردع أمثاله عن ذلك، أم النظام الذي يضيع المرأة والطفل، ويحرمهما من جو الأسرة الطبيعي، ويلغي من حياة الطفل معنى الأبوة والقرابة الأبوية؟!


هذا فضلاً عما تجلبه الإباحية من أمراض فتاكة!! ترى أين هو العلم والبحث الدقيق ، الذي اشتهرت به جامعاتهم وعلماؤهم في مجالات الصناعة ؟ أما أسعفهم في هذا الأمر؟!


بل إنه ما أسعفهم ولن يسعفهم أبداً؛ لأن القضية ليست قضية علم، بل قضية سيطرة الشهوات و التبرير لها، والدليل على ذلك: أنهم يعرفون مضار الخمر الجسمية أكثر مما نعرفها نحن، ومع ذلك لا يمنعونها ولا يعاقبون عليها، بل يعيبون علينا العقاب؛ لأن الإضرار بالنفس عندهم مسألة شخصية، والإنسان حر بنفسه، وكأن عند القوم عقدة اسمها الحرية، حتى إنهم يقدسون الحرية، ولو كانت إضراراً بالنفس، لكن هل صحيح أن شرب الخمر إضرار بالنفس فقط؟ أما الأطباء فيقولون: إن لها أضراراً على النسل، فمتعاطيها يؤذي بها أقرب الناس إليه، وأحقهم برحمته في الوقت الذي لا يملكون فيه الدفاع عن أنفسهم ولو بالكلام.


وأما المحاكم فتشهد أن كثيراً من الجرائم ترتكب تحت تأثير الخمر، حين يفقد الإنسان تمام السيطرة على تصرفاته فيؤذي قريبه أو صديقه، أو يزني بابنته وأخته، كما أن إحصائيات الحوادث تشهد بكثرة الضحايا الذين يسوقون مركباتهم وهم سكارى فيقتلون أنفسهم ويقتلون الآخرين.


ترى هل يمكن لعاقل بعد هذا كله أن يقول إن شرب الخمر مسألة شخصية، أو يمكنه أن يستنكر العقوبة الرادعة عنها؟! بل هل يمكنه أن يستنكر شيئاً من العقوبات الإسلامية؟


أما غير المنصف فيمكنه أن يقول ما يشاء، وأما المنصف فأراه إذا تدبر المسألة تدبراً يسيراً، وتذكر ذلك الأمن الشامل في بلاد الإسلام: الأمن الذي تحقق قبل انقضاء عصر الصحابة، فكانت المرأة تسير وحيدة على ناقتها من الحيرة ـ تخترق قلب الصحراء وتمر بالقرى والمدن ـ حتى تطوف بالبيت الحرام، لا تخاف الطامعين بها، ولا بناقتها ـ والناقة مال كثير يومئذٍ، وكانت تراق من أجله الدماء في الجاهلية ـ لو تدبر المنصف وتذكر هذا لكان يردد مع أهل الإيمان قول الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}[المائدة/90] بل يقول ـ وهو ينظر عقوبات التشريع الإسلامي كلها وإلى أثرها العظيم وإسهامها القوي في أمن المجتمع ـ: {ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر}[الإسراء/102] صدق الله العظيم

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين