دعوة لا يُستجاب لها

 

قالوا: ما لنا ندعو سائلين ربنا ولا يستجاب لنا؟

قلت: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين، لقد أعظمتُ قولكم وأكبرتُه مستبشعا له استبشاعا ومستهجنا له استهجانا. فهل تعتِبون على ربكم مُنْحِين عليه باللائمة؟ تعالى عن ذلك علوا كبيرا. أتظنون أنكم تعملون ولا تُثابون؟ وتدعون ولا تُجابون؟، سبحان ربي الكريم المنان الوهاب، سبحان من يعطي بغير حساب.

قالوا: وهل أجابك كلما دعوته؟

قلت: نعم، وأفضل وأنعم، وأعطاني أوفى مما سألتُ وأزكى مما ابتغيتُ، وكيف لا وقد أحسن إلي ولا يزال بدون طلب ولا استعطاء، ألا يمنُّ علي وأنا أستوهبه مكديا وأستعطفه استعطافا، فكم من كربة نجاني منها، وكم كشف البلاء إذا بُليتُ، وفرج عني المضايق، وكم غطى لي من ذنوب وستر لي من عيوب، وكيف أنسى فضل رب جاد فضلا، وما قلت في فضله شيئا إلا وقد أربى فضله عليه وفاض. 

قالوا: ويشاركنا فيما قلنا غيرنا،

قلت: ساءني ما قلتم، وما زادني ما حكيتم عن غيركم إلا مساءة وامتعاضا، يا ليتكم شكوتم إليّ أحبتي وأصدقائي وإخواني وشيوخي وآبائي فاحتملت الأذى وصبرت، ولكن شكوتم ربي فجرحتم مشاعري، وزدتموني نكدا وأسى. أتصور أن لا تسألوه، ولن أتصور أن تسألوه ولا يجيبكم، من أسخياء بني آدم المعروفين بالسماحة والندى من لم يقل لا قط، ولا إخال قصيدة الفرزدق في علي بن الحسين زين العابدين تغيب عنكم، أو لم تُرو لكم أخبار حاتم بني طي الذي يضرب به المثل في الأريحية والسراء، لم ير مثله أوسع كفا لطالب ولا أطول يدا بمعروف، لم يمنع أحدا ما رجاه ولا أمسك عمن استعطاه، ومن قصصه الطريفة ما نظمه الشيخ سعدي الشيرازي رحمه الله في كتابه (بوستان) أن بعض ملوك اليمن لما بلغه عجائب حاتم وروائعه في النفح والبذل وثناء الناس عليه ثناءا معطارا حسده حسدا عظيما، وكان يظن أنه أكرم من حاتم، فنهى الناس أن يذكروا حاتما في مجلسه، ووفد إليه بعض الأعراب يوما، وتحدث عن جود حاتم وسخائه، مبالغا في مدح فرسه وأنه من الخيل العزيزة التي لا يملك أحد مثلها أو ما يقاربها، فغضب الملك وقال: لو أهداه إلي حاتم لاعترفت بفضله، فوافِه مستوهبا منه ذلك الجواد النفيس الغالي، فركب الأعرابي مطيته يؤمّ حاتما، حتى دخل عليه في ليلة ذات ريح شديدة وبرد ومطر، واستقبله شريف طي الفيَّاح أحسن استقبال وأضافه بما لذّ من طعام وطاب من مقام، وأكرم مثواه، فلما أصبحا سأله الأعرابي ذلك الفرس الذي تناقلت العرب أخباره وأصبح حديث كل ناد وواد، فأطرق حاتم رأسه، وظن الأعرابي أن هذا السؤال ساء حاتما وثقل عليه لعزة الفرس عليه، فاعتذر إليه معربا عن تأسف وندم، قال حاتم: هلا أعلمتني بحاجتك إذ استقبلتك، وقد نحرته لك إذ كانت الأنعام كلها بعيدة عني، ثم حباه بأنواع من الهبات والعطايا، رجع بها إلى الملك حاكيا له ما رأى من أيادي حاتم البيضاء وصنائعه الفيحاء، فعجب مقرًا لحاتم بالفضل في الندى والكرم. 

قلت: فإذا كان حاتم قد بلغ في الجود هذا المبلغ فما ظنكم برب العالمين وأكرم الأكرمين؟

قالوا: فما تقول في استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة لا يستجاب لها؟

قلت: لقد أسأتم فهم ذلك الحديث أيما إساءة، لا يعني أن عباد الله يدعونه ولا يستجيب لهم، ومحال أن يكون ذلك معناه، وإنما هي استعاذة من دعاء الغافلين الذين لا يعقلون من يدعون ولا يعون ما يسألون، فأجدر بهؤلاء البُلْه التائهين أن لا يستجاب لهم. 

قلت: إذا سألتم ربكم فاعلموا من تسألونه، قيل لجعفر بن محمد رحمهما الله تعالى: ندعو فلا يُستجاب لنا، قال: لأنّكم تدعون مَن لا تعرفونه. انظروا كيف يبدأ الأنبياء دعواتهم بقولهم "رب" أو "ربنا"، وكلمة "الرب" تنبئ عن معرفتهم به وتضرعهم إليه معتمدين عليه متوكلين، فإذا سألتم ربكم بقولكم "ربنا" أو "رب" ووعيتم بعقولكم مغزاه واستشعرتم بقلوبكم مرماه أجابكم، يحكى أن غلاما في ضواحي دهلي في الهند سأل أباه دراجة، فقال: يا بني أنا فقير ولا أملك من المال ما أشتري به الدراجة، وكرر الغلام السؤال بعد فترة فزجره أبوه وقال: ألم تسمع أني لا أستطيع شراء الدراجة، ثم عاد الغلام إلى أبيه مرة ثالثة سائلا الدراجة، فاستشاط غضبا وقال: لئن عدت مرة أخرى لأوجعنك ضربا، فقال الغلام: يا أبت! أنت أبي إن لم أسألك فمن أسأله، فسكت الغضب عن الأب وخرج وجمع من المال واشترى لابنه الدراجة. انظروا: كيف أدرك الغلام معنى الأبوة، وكيف حرَّك ذلك أباه واستثار فيه الرحمة، فتفقهوا معنى الربوبية، وسلوا ربكم متضرعين إليه ملحين يجبكم. 

قالوا: ما معنى الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب له؟

قلت: إن الله تعالى يجيب دعوة الكافر إذا استغاثه مبتهلا إليه: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون)، فإذا عرف الإنسان ربه وناشده مستجديا مسترحما أجابه، حتى إن آكل الحرام إذا دعاه منيبا إليه مخلصا أجابه، ومعنى الحديث: أن الإنسان إذا تعاطى الحرام وعصى ربه حُرم التضرع والإخلاص له، فيدعو وهو مشتت البال مشرد الهم، فأنى يستجاب له، وشرط الدعاء جمع الهم في تضرع وإنابة وإلحاح. 

فتوبوا إلى ربكم قبل أن لا تستطيعوا أن تتوبوا، توبوا من ذنوب موبقات جنيتموها، واجتنبوا الحرام واتقوه، والسعي في طلب التقى من خير مكتسب الكسوب، وادعوه متضرعين إليه منيبين يجبكم، وهو من خلقه سميع الدعاء، وسع ملكه السماوات والأرض، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، وهو الإله الوهوب، تحاشى ربنا عن كل نقص، وحاشا سائليه بأن يخيبوا، فلا تتعرضوا لعطية إلا عطية ربكم الوهاب، واسألوا الله من فضله فإن عطاياه لا تنفد. 

قالوا: إذا كانت عطاياه لا تنفد، وفضله لا ينتهي فما نسأله؟

قلت: تأسوا بامرأة فرعون، كانت قد أوتيت من كل شيء سببا، فزهدت فيه وفي جوار زوجها الملك المتجبر الذي كان أعظم أهل الدنيا أخطارا، تلك المرأة التي ضربها الله مثلا للذين آمنوا: "إذ قالت رب لي عندك بيتا في الجنة"، فسلوا جوار ربكم في الجنة، فلا مطلب أفضل منه، إن كنتم للمطالب الفاضلة ساعين وإلى جوار ربكم متطلعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين