الدّين من مزايا القائد المنتصر

 

الشائع بين العسكريين العرب أن التديّن يناقض المهنة العسكرية. ومن الواضح جداً أن الذي أشاع هذه الفرية هو الاستعمار وأذنابه، فمن المعروف أن غورو حين احتل لبنان وسورية استصحب معه سفينة مليئة بالعاهرات، وحين سئل عن سرّ ذلك قال: الجيش العسكري للاحتلال، والعاهرات لتخريب الضمائر والنفوس، ولن يقاتل أحد عارٍ عن الخلق الكريم. وفعلاً عملت العاهرات عملها التخريبي، وأفسدت الذمم والأخلاق.

وحين انتسبتُ إلى العسكرية نصحني صديقٌ أثق به بأن أترك الدين جانباً. ولولا فضل الله عليّ لاستمعتُ لنصيحته ولابتعدت عن الدين وهو عماد الخلق الكريم.

وبغير مباهاة أقرر للحق وحده: أن ما جاء في تراثنا العربي الإسلامي أغزر مادةً وأكثر تفصيلاً وأشمل دراسة وأعمق فكراً مما جاء في المصادر العسكرية الحديثة، ابتداءً بما قاله نابليون وانتهاء بما سطّره مونتكومري في كتابه "السبيل إلى القيادة".

والواقع أن في تراثنا كنوزاً من العلم والمعرفة يندر وجودها في تراث آخر، ولكن المناهج التعليمية الذي حرص المستعمر على وضعها وحرص أيتامه على إقرارها من بعده، عملت عملها في التقليل من شأن تراثنا العريق، وصورّتْه بصورة المتخلف عن ركب الدراسات العلمية والأدبية والفنية، وجعلت التلاميذ والطلاب يشيحون بوجوههم عنه مبهورين بكل ما جاء به الأجنبي.

ومن المؤسف حقاً أن تراثنا الشامخ أصبح مجهولاً حتى من أساتذة الجامعات، فهم يردّدون ما قاله الأجنبي.

وإذا كان للمستشرقين والأجانب عذرهم الواضح في التقليل من شأن تراثنا الإسلامي، فما عذر "المستغربين" العرب في اقتفاء آثار الأجانب والمستشرقين؟. لقد توخى المستعمر قلع صلة التلاميذ العرب وطلابهم من جذورها بتراثهم الحضاري العظيم، والأمة التي ليس لها ماض تعتز به لا يكون لها حاضر ولا مستقبل.

في الأسطر التالية سأركز على ما جاء عن العقيدة في مزايا القائد المنتصر في تراثنا العربي الإسلامي أولاً، وفي المصادر الأجنبية ثانياً.

وتراثنا في الناحية العسكرية ضخم جداً يملأ مكتبات أوروبا ومتاحفها وتزخر به مكتبات المخطوطات العربية في شتى أصقاع الدنيا، ويكفي أن نذكر كتاب فهرست ابن النديم الذي عدّد فيه "الكتب المؤلفة في الفروسية وحمل السلاح، وآلات الحرب والتدبير" لنرى أي تراث عسكري أصيل كان للعرب والمسلمين منذ أقدم العصور.

وإذا كان الزمن قد أبقى عدداً كبيراً من المخطوطات العسكرية العربية فكم هو عدد المخطوطات المفقودة؟ وما بقي منها يدل على أن العرب والمسلمين بلغوا شأواً بعيداً في العلوم العسكرية النظرية.

وسأقتصر على إيراد ما جاء في ثلاثة كتب من تراثنا عن "العقيدة وعلاقتها بصفات القائد المنتصر".

جاء في كتاب مختصر سياسة الحروب للهرثمي الذي عاش إلى ما بعد سنة 243 هـ في باب: "أن نظام الأمر تقوى الله والعمل بطاعته" ما نصّه: "فينبغي لصاحب الحرب أن يجعل رأس سلاحه في حربه تقوى الله وحده وكثرة ذكره والاستعانة به والتوكل عليه، وأن يعلم أن النصر هو من الله جلّ شأنه لمن شاء من خلقه كيف شاء، لا بالأرب منه والحيلة والاقتدار والكثرة، وأن يبرأ إليه جلّ وعزّ، من الحول والقوة في كل أمر ونهي ووقت وحال، وألا يدع الاستخارة لله في كل ما يعمل به، وأن يترك البغي والحقد وينوي العفو ويترك الانتقام عند الظفر إلا بما كان فيه لله رضى، وأن يستعمل العدل وحسن السيرة والتفقد للصغير والكبير بما فيه مصلحة رعيته".

وجاء في كتاب "الأحكام السلطانية" لأبي الحسن علي الماوردي المتوفّى سنة 450 هـ عن "العقيدة في صفات القائد المنتصر": "أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله من حقوقه وأمر به من حدوده، حتى لا يكون بينهم تجوّر في دين الله ولا تحيُّف في حق، فإن من جاهد عن الدين كان أحق الناس بالتزام أحكامه، والفصل بين حلاله وحرامه".

وجاء في كتاب "الأدلة الرسمية في الحربية" لمحمد بن منكلي نقيب الجيش في سلطنة الأشرف شعبان (764-778هـ): "إن تقوى الله هي العمدة العظمى، والفوز الأكبر الأعلى"، ثم قال: "ويلزم أميرَ الجيش أن يؤلف بين قلوب رفقائه، وأن يراعي في جيشه ما أوجبه الله من حقوقه".

وأكاد ألمح قسماً من القراء يطالبون بإيراد ما جاء في المصادر الأجنبية الحديثة عن ميزة العقيدة في القائد المنتصر.

سأقتصر على ما جاء في كتاب "السبيل إلى القيادة" الذي ألّفه المشير مونتكومري أبرز قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

يتساءل مونتكومري: "هل من علاقة للدين بالقيادة؟". وهو يجيب على هذا التساؤل جواباً جازماً فيقول: "إن القائد لا بد من أن يكون متمسكاً بمثل عليا وبالفضائل الدينية".

ومجمل الفضائل الدينية التي يراها مونتكومري هي:

- الهدي: وهي عادة إرجاع جميع الأمور إلى الإرشاد الإلهي. وإلى هذه الفضيلة تستند الحكمة والإنصاف وحسن التصرف.

- العدالة: وهي إعطاء حق الله وحق الإنسان. وإلى هذه الفضيلة تستند الواجبات الدينية والطاعة والشكران، وكذلك النزاهة والاستقامة وحسن النية نحو الآخرين.

- الانضباط: وهو السيطرة على النفس لغرض تطوير الطبيعة البشرية إلى أرفع المستويات للأغراض الاجتماعية والشخصية أيضاً. وإلى هاتين يستند الطهر والتواضع والصبر.

- الجلادة: وهي الروح التي تقاوم وتتغلب على محن الحياة وإغراءاتها. وإلى هذه الفضيلة تستند الشجاعة الأدبية والمثابرة وضبط النفس.

ثم يستاءل مونتكومري: "من هم أعظم القادة في كل الأزمان؟". ثم يجيب: "إنهم ولا شك مؤسسو الديانات العظمى: المسيح ومحمّد وبوذا".

ثم يقول: "هل كانت الحياة الخاصة لهؤلاء الثلاثة إحدى الأسباب لنفوذهم ونجاحهم؟ وهل يجب أن تكون حياة القائد الخاصة فوق الشبهات؟".

ويجيب: "في رأيي الخاص أن العامل الأكبر هو إخلاص المرء ونفوذه وكونه (قدوة) وخاصة فيما يتعلق بالفضائل الدينية... فإن لم تكن حياته الخاصة فوق الشبهات فلا يحترمه الذين يقودهم، وإذا ما حدث ذلك، فستفقد قيادته تأثيرها. إنني أعتقد أن (الاستقامة) في القضايا المعنوية وفي الفضائل الدينية أمر ضروري لنجاح القائد".

ومن الواضح أن مونتكومري في كتابه هذا ردّد مرات كثيرة، أهمية تحلّي القائد بالدّين.

إن القائد المنتصر يجب أن يكون صاحب عقيدة راسخة. ندعو الله أن يجعل جميع قادة المسلمين من الملتزمين بدينهم.

[باختصار، من مجلة فلسطين المسلمة (العدد 10 – تشرين الأول/1996م)، بقلم: اللواء الركن محمود شيت خطاب]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين