الأزمة الدستورية في تاريخنا الإسلامي

بعد انتقال النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى بدأ المجتمع الإسلامي يتعرض إلى تحديات داخلية عديدة، تمثل أولها فيمن يخلف النبي في قيادة المجتمع والدولة، وقد استمر هذا الصراع يتأجج حتى وصل إلى نزاع دموي عنيف عرف باسم "الفتنة الكبرى" التي أورثت الأمة الإسلامية جملة من الأدواء العضال:

• أولها : التفريط بالشرعية الدستورية التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده .

• وثانيها : ظاهرة التشدد والغلو التي مثلها "الخوارج"

• وثالثها : تحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، والفتوى بشرعية المتغلب التي شرعنت الاستبداد .

• ورابعها : انقسام الأمة إلى طوائف متناحرة .

فما هي الفتنة الكبرى التي أورثت الأمة كل هذه الأدواء التي مازالت الأمة إلى اليوم تئن تحت آثارها ؟

الفتنة الكبرى :

هي سلسلة من القلاقل والاضطرابات والنزاعات الداخلية التي نشبت بين الصحابة – رضوان الله عليهم - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدت إلى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في سنة 35 هـ، وتواصل هذا الصراع طوال خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي لم يسلم من القتل هو الآخر !

وكان لهذه الفتنة أثر كبير في تحويل مسار التاريخ الإسلامي، فقد شغلت المسلمين عن الفتوحات، وكانت بداية لسلسلة من الأحداث والتغيرات التي ذكرنا بعضها آنفاً، وقد أثمرت هذه الأحداث ثمرة شديدة المرارة تمثلت في إهدار "الشرعية الدستورية" التي تركت آثارها السوداء على الثقافة الإسلامية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، لأنها أسفرت عن تحويل "الخلافة الراشدة" التي قامت على البيعة الحرة والشورى إلى ملك وراثي عضوض (= استبدادي) فقد تعرضت الأمة من جراء الفتنة في حينها إلى ثلاثة تهديدات كبيرة :

0 - استمرار الصراع الداخلي الذي بات يهدد بتمزق الأمة بعد وحدتها .

1 وقف الفتوحات وتعطيل انتشار الإسلام .

2 التسليم بالقوة الغالبة في هذا الصراع، من أجل وقف هذا الصراع وإنهاء الفتنة، وقد مثل هذه الغلبة "البيت الأموي" بقيادة معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه - والقبول بهذه الغلبة كان يعني تجاوز الدستور الذي أسسه النبي – صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده على أسس البيعة الحرة والشورى !

وأمام هذه التهديدات الكبيرة وجد الفقهاء أنفسهم مضطرين لاختيار أحدها تجنباً للتهديدين الآخرين الكبيرين؛ فذهبوا إلى الخيار الأخير أملا في إطفاء نار الفتنة ؛ مقدرين أن هذا الخيار هو أهون الخيارات، فقالوا بجواز "خلافة المتغلب" .

ولم تتوقف الفتوى عند هذا الحد؛ بل تابع الفقهاء في التبرير لسلطة المتغلب، بعد أن صاغها إمام الحرمين، الجويني، أبو المعالي (419هـ - 478هـ) في كتابه "الغياثي" الذي قال بإمكانية خلو الدهر من الإمام، وإمكانية قيام الدولة بالتغلب إذا قام به ذو نجدة وشوكة يذب عن بيضة الإسلام، فإنه يقع له الأمر ويكون إماماً للمسلمين، على أهل الوفاق والاتباع، وعلى أهل الشقاق والامتناع سواء. ثم تابعه الفقهاء على هذا النسق ، منهم ابن حزم الظاهري، وعلماء الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية، وهذا ما جعل الغلبة والاستبداد سنة ماضية في تاريخنا الإسلامي حتى اليوم !

وللإنصاف نقول، إن الفقهاء الذين أفتوا بجواز خلافة المتغلب وضعوا شروطاً للقبول به كما ذكر الإمام الماوردي (364 - 450 هـ ) في "الأحكام السلطانية" إلا أن هذه الشروط ظلت حبراً على الورق كما يقولون، فقد مضى تاريخ المسلمين بعد ذلك تاريخَ غلبةٍ واستبداد، وكان هذا من أخطر التشوهات التي لحقت بالثقافة الإسلامية، فمازال المسلمون يدفعون ضريبة هذا التشوه من دمائهم وأعراضهم وأموالهم حتى اليوم !

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين