سلسلة إتقان البرهان (عرض ونقد) (6) المكي والمدني

أعقب الدكتور فضل الحديث عن أسباب النزول، بالحديث عن المكي والمدني؛ لأنه يرى بين المبحثين نوعاً من المناسبة؛ لما بينهما من صلات ووشائج.

ومن الملاحظات العامة:

1-تكرار الدكتور فضل للعناوين في الصفحة الأولى والثانية.

2-اعتماده على الزرقاني في هذا البحث، واختياره لتعريفه.

3-الإتيان بتقسيم جديد للمكي والمدني، وجعله لكل منهما ضوابط، وخصائص، ومميزات.

أولاً: تعريف المكي والمدني (1): 

ذكر الدكتور فضل ثلاث تعريفات للمكي والمدني، وهي أقرب ما تكون إلى الضوابط منها إلى التعريفات، ولكن يطلق عليها تعريفات من قبيل التجوز.

? باعتبار المخاطب: المكي ما كان خطاباً لأهل مكة، والمدني ما كان خطاباً لأهل المدينة.

? باعتبار المكان(2): المكي ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة. 

? باعتبار الزمان: المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، وهو قول جمهور العلماء.

موازنة بين الأقوال:

الخلاصة أن كل من القول الأول والثاني، غير جامع ولا مانع، ويلزم عليهما أن تكون القسمة غير ثنائية، والقول الثالث خال عن كل هذه الاعتراضات، فالقسمة عليه ثنائية، وهو تقسيم منضبط حاصر؛ لذلك كان المختار لدى أكثر العلماء.

ثانياً: فائدة معرفة المكي والمدني (3): 

الفائدة الأولى: الوقوف على السياسة الحكيمة التي سلكها القرآن في التربية والتي تقوم على التدرج في التشريع.

الفائدة الثانية: معرفة الناسخ والمنسوخ، وفي ذلك يقول الدكتور فضل: "إن المتتبع بدقة للآيات المنسوخة في القرآن الكريم، لا يجد في الحقيقة آيات مكية منسوخة، اللهم إلا ما قيل عن آية المزمل، وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2]" (4). 

وأقول: الدكتور فضل محق في هذا؛ لأنه بعد التتبع للآيات المكية المنسوخة في القرآن، وجدت أن معظمها من قبيل نسخ الإباحة، أو قيل فيه: نسخ بآية السيف، والإمام الزركشي في البرهان (5)، رد على هذه المقولة (نسخ بآية السيف)، والسيوطي في الإتقان (6)، عدَّ الآيات المنسوخة في القرآن، فبلغت -بعد التحقيق- عشرون آية، لم يذكر فيها من المكي إلا آية المزمل. 

الفائدة الثالثة: تسهيل فهم الموضوعات القرآنية، بحيث تدرس القضايا القرآنية دراسة موضوعية، يُراعى فيها الترتيب الزمني، بحيث تجمع الآيات المتفرقة في الموضوع الواحد، وهذا ما يُعرَفُ بالتفسير الموضوعي. 

ثالثاً: كيفية معرفة المكي والمدني(7): 

لمعرفة المكي والمدني طريقان اثنان: 

الطريق الأول: النقل والسماع، كأن يقول بعض الصحابة والتابعين، نزلت سورة كذا في المدينة، أو في مكة قبل الهجرة، ويلحق بهذا أن تتحدث السورة عن أمر عُرِف زمانه ومكانه، كسورة الأنفال، وحديثها عن غزوة بدر. 

الطريق الثاني: قياسي، والمراد به الضوابط والخصائص التي وضعها العلماء لكل منهما.

ضوابط المكي (8): 

1-كل سورة فيها كلمة (كلا) فهي مكية؛ لأن كلمة كلا لم تذكر سوى في السور المكية.

2-كل سورة فيها سجدة فهي مكية، وهذان ضابطان مطردان.

3-كل سورة ذكر فيها قصص الأنبياء -من حيث دعوتهم للتوحيد، ونبذ عبادة غير الله-، فهي مكية، واستثنى بعضهم البقرة؛ لأن فيها ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام، ويرى الدكتور فضل أنه لا داعي لهذا الاستثناء؛ لأن ما ذكر في سورة البقرة من قصص الأنبياء ليس من هذه الحيثية. 

4-كل سورة افتتحت بالأحرف المقطعة فهي مكية، إلا البقرة وآل عمران.

5-كل سورة ذكرت فيها قصة آدم فهي مكية إلا سورة البقرة؛ إذ جاء فيها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. 

وهنا استفسار: لماذا أفرد الدكتور فضل قصة آدم؛ ولم يجملها مع قصص الأنبياء؟، ثم ألا يمكن القول إنَّ قصة آدم في سورة البقرة لم تذكر من حيثية الدعوة إلى التوحيد، وإنما من حيثية أخرى. كما أجاب الدكتور فضل عن بعض الاستثناءات سابقاً.

6-كل سورة انفردت بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] دون نداء المؤمنين، فهي مكية، أما إذا اجتمع النداءان فهي مدنية.

ويرى الدكتور فضل أن كل سورة فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] فهي مدنية باتفاق؛ لأنَّ نداء الناس يصلح في مكة والمدينة، أما نداء المؤمنين، فلم يكن إلا في المدنية المنورة؛ لأنَّ المسلمين لم يكن لهم في مكة مجتمع خاص بهم.

ضوابط المدني (9): 

1-كل سورة ذكرت فيها الحدود والفرائض، فهي مدنية باتفاق.

2-كل آية أمرت المسلمين بالجهاد والقتال، فهي مدنية؛ والدكتور فضل كان دقيقاً بقوله: (أمرت)؛ ليخرج السور التي ذكر فيها الجهاد، دون الأمر به كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. 

3-كل سورة ذكر فيها المنافقون فهي مدنية، ولم يستثني الدكتور فضل سورة العنكبوت؛ لأنه يرى أن النفاق، لم يظهر إلا في المدينة. 

خصائص ومميزات كل من المكي والمدني (10):

فرّق الدكتور فضل بين الضوابط، وبين الخصائص والمميزات، فالضوابط عنده: هي العلامات الظاهرة التي إذا وجدت في سورة ما قيل إنها مكية أو مدنية، أما الخصائص والمميزات: فهي الأصول والمقاصد، والأساليب والأغراض، التي امتاز بها كل قسم من هذه الأقسام.

خصائص القسم المكي:

كان من أصول القسم المكي: 

1-الدعوة إلى التوحيد، ومناقشة المنكرين له، وإقامة الأدلة عليه، مثال ذلك: قوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. 

2- ضرب الأمثال، ومثاله قوله تعالى: { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } [النحل: 74]. ويرى الدكتور فضل أن ضرب المثل جاء في السور المدنية، ولكن من حيثية أخرى، غير التوحيد ونفي الشركاء (11).

3-إرساء قواعد إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام.

4-تثبيت عقيدة البعث والنشور في صدور القوم.

5-الإكثار من الحديث عن أخبار الأولين وقصص السابقين.

ومن حيث الأسلوب امتاز القسم المكي بمزايا عدة:

1-معظم السور المكية قصيرة.

2-قِصر الآيات وكثرة الفواصل فيها.

3-الجزالة في تقرير القواعد، فكانت آيات القسم المكي تقرع في السمع، كأنها الرعد إن كانت وعيداً، أما إن كان فيها وعداً فهي بمنتهى العذوبة والسلاسة.

خصائص القسم المدني:

أصول القسم المدني: 

1-كثرة الأحكام التفصيلية التي تنتظم شؤون الحياة.

2-الحديث عن أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الحق، ومناقشتهم.

3-فضح المنافقين، وكشف ألاعيبهم ومكرهم.

4-بيان أحكام الجهاد والقتال.

أما من حيث الأسلوب: فيمتاز هذا القسم بطول آياته، في أكثر السور المدنية؛ لأن الحديث عن الأحكام يحتاج، إلى مزيد من البيان والتفصيل.

رابعاً: السور المكية والسور المدنية وما يتصل بذلك (12):

يرى الدكتور فضل أن هذا المبحث من أخطر المباحث؛ لكثرة ما فيه من الأقاويل والدعاوى التي تحتاج إلى تمحيص وتحقيق.

عدد السور المكية والمدنية:

ذكر الدكتور فضل أن هناك روايات كثيرة في بيان السور المكية والمدنية، ولكن أقربها إلى الصواب هو ما نقله السيوطي عن ابن الحصار أنَّ: "المدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي باتفاق" (13). 

فالسور المتفق على مدنيتها هي: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، النور، الأحزاب، محمد ?، الفتح، الحجرات، الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الجمعة، المنافقون، الطلاق، التحريم، النصر. والسور المختلف فيها هي: الرعد، الرحمن، الصف، التغابن، الجن، المطففين، القدر، البينة، الزلزلة، الإخلاص، الفلق، الناس (14). 

ومع كون هذه الرواية هي أقرب الروايات إلى الصواب، إلا أنَّ الدكتور فضل يجري بعض التعديل عليها، فهو يجعل كل من سورتي الصف والمنافقون، من القسم المدني، فتكون عدة السور المدنية عند الدكتور فضل اثنتان وعشرون سورة، والمختلف فيها عشر سور، وباقي السور مكية.

أقوالهم في المكي والمدني:

ذكر الدكتور فضل أن قضية المكي والمدني جديرة بالبحث والعناية من العلماء؛ و يجب أن تصفَّى من كثير من الشوائب، فقد ذكر العلماء أنواعاً كثيرة تتصل بهذا الموضوع، فهناك آيات مكية لها حكم المدني، أو مدنية لها حكم المكي، وآيات مكية في السور المدنية، وآيات مدنية في السور المكية، وغير ذلك مما فصَّله السيوطي في الإتقان (15).

ويرى الدكتور فضل أن في هذه الأنواع الكثير من المبالغة، وخاصة قضية وجود آيات مكية في السور المدنية، فينقل عن ابن حجر أنه قال: "إن الآيات المكية في السور المدنية أمر نادر" (16).

ثم يعقب الدكتور فضل على كلام ابن حجر بقوله: "و نحن مع الحافظ...والذي يظهر لي أنه شيءٌ لا وجود له، فلا يعقل أن تنزل الآية في مكة المكرمة، وأن تبقى سنين طويلة لا مكان لها إلى أن تنزل السورة في المدينة المنورة..." (17).

ثم يُنبّه الدكتور فضل على أنه ليس كل ما استثني في السور المكية من آيات مدنية صحيح، بل غالباً ما يظهر فيه الغلو والتكلف؛ لأسباب واهية، وروايات ضعيفة.

ومن أمثلة ذلك: كل آية ذكرت فيها الزكاة استثنوها أنها مدنية؛ بحجة أن الزكاة فرضت في المدينة، ويرى الدكتور فضل أن هذا غير مسلّم؛ لأنَّ لفظ الزكاة كان معروفاً في مكة، وكان يعني البذل والعطاء.

دراسة سور القرآن من حيث مكيتها ومدنيتها (18):

قدَّم الدكتور فضل دراسة وافية للسور القرآنية، وخاصة السور المختلف فيها، وبيَّن أقوال العلماء، ثم رجح ما يؤيده الدليل، ولن أقف عند جميع السور، ولكن سأذكر بعض السور المختلف فيها فقط، والتي كان للشيخ آراء خاصة فيها. 

سورة الأنعام: مكية، وذكر الدكتور فضل أنه قيل فيها: أنها نزلت دفعة واحدة، شيعها سبعون ألف ملك، وذكر أن هذه الرواية لا تصح (19). وذكر أنَّ العلماء استثنوا منها آيات قيل: إنها نزلت في المدينة المنورة، منها {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [الأنعام: 20]، ومنها: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 91] حيث قالوا: إنها نزلت في مالك بن الصيف (20). ومنها: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 93]، ومنها: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} [الأنعام: 111]، وأيضاً: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 111] والآيتان بعدها. 

ويرى الدكتور فضل أن السورة كلها مكية، ليس فيها مدني أبداً؛ لأنَّ السياق والموضوع والأسلوب يدل على مكيتها. 

وأنا أوافق الدكتور فضل على أن خبر نزول السورة جملة واحدة لا يصح؛ ويؤيد ذلك: ما ذكره الإمام الزركشي في البرهان (21)، عن ابن الصلاح في فتاويه (22) أن الخبر المذكور جاء من حديث أبيِّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده ضعف، ولم يجدوا له إسناداً صحيحاً، بل وجد ما يخالفه، وهو أنَّ فيها آيات نزلت في المدينة ولكن اختلفوا في عددها.

ولكن الذي لا أؤيد الدكتور فضل فيه، أن تكون السورة كلها مكية؛ لأنه ثبت أنها لم تنزل جملة واحدة؛ لضعف الروايات، فما الذي يمنع أن يكون فيها آيات نزلت بالمدينة؟ والسيوطي في الإتقان، يقول: "قلت: قد صح النقل عن ابن عباس رضي الله عنه باستثناء {قُلْ تَعَالَوْا} الآيات الثلاث" (23) 

وأيضاً: بالنسبة للآيات التي تتحدث عن أهل الكتاب، فإنَّ السياق والأسلوب والموضوع يدل على مدنيتها؛ اللهم إلا إن قال الدكتور فضل: إن الحديث عن أهل الكتاب؛ ليس فيه دعوتهم إلى الإيمان، بل المراد مجرد الإشارة إليهم فقط في السور المكية.

سورة الحج: ذكر الدكتور فضل أن العلماء اختلفوا في مكيتها ومدنيتها، والصحيح أنها مكية. 

لكن العلماء استثنوا منها: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِم} [الحج: ??]، كما جاء في صحيح البخاري، ومراد الدكتور فضل: أن العلماء استثنوا من مكيتها هذه الآية فقالوا: إنها مدنية، والراجح أنها مكية. ولكن عبارة الدكتور فضل مجملة، ولا توحي بهذا المعنى إلا بعد تأمل وتفكر، قال الدكتور فضل: "وقد رووا منها قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِم} كما جاء في صحيح البخاري، وهذا القول فيه ما فيه، ونرى أن الآية عامة من حيث معناها، وإن كانت عامة إلا أنه يدخل فيها ما كان يوم بدر بين أصحاب الحق وهواة الباطل. والمرجح أنها مكية، لكنها صادقة في كل خصمين اختصموا في ربهم" (24). فلولا ترجيح الدكتور فضل، لم ندر عن ماذا يتكلم.

ثم يذكر الدكتور فضل من الآيات المدنية في سورة الحج: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، وقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وقوله أيضاً في الحديث عن شعائر الحج: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]. 

وفي الحقيقة: هذه السورة اختلف فيها العلماء اختلافاً كبيراً: 

فالإمام الزركشي في البرهان يقول: "مدنية إلا أربع آيات" (25). وأبو جعفر النحاس ذكر عن ابن عباس أنها: مكية إلا ثلاث آيات (26). وابن حزم يقول: "مكية، وهي من أعاجيب القرآن؛ لأن فيها مكياً ومدنياً، وسفرياً وحضرياً" (27).

والذي يبدو لي أن سورة الحج مختلطة، كما ذكر السيوطي في الإتقان، فقال: "قيل: هي مختلطة فيها مكي وفيها مدني، وهو قول الجمهور" (28). 

سورة الكوثر: قال الدكتور فضل: "اختلف فيها ويترجح لدي مكيتها، والله أعلم. وبعد مراجعتي لما كتبت، والمقارنة بين الروايات، صار الراجح مرجوحاً" (29). وهنا عبارة الدكتور فضل محتملة، فربما نظر بعض الناس إلى أول الكلام ونقل عن الدكتور فضل القول بـمكيتها، فالأولى أن يقول الدكتور فضل: يترجح لدي مدنيتها، ثم يذكر بعد ذلك قوله السابق بـمكيتها، وكيف رجع عنه؛ نتيجة البحث والتمحيص (30). 

ثم ذكر الدكتور فضل أقوال العلماء فيها، وأن أبي حيان نسب القول بـمكيتها للجمهور(31) ، ثم ذكر أنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي ومقاتل أنها مكية. وبالنسبة لابن عباس رضي الله عنهما فليس هناك ما يدل على صحة الرواية عنه، وأما الكلبي ومقاتل فأمرهما معروف عند العلماء.

وأضاف الدكتور فضل أن القائلون بمكيتها تمسكوا بما ورد في سبب نزولها، أنها نزلت في العاص بن وائل. وذهب بعضهم أنها نزلت في ابن أبي معيط. وقال بعضهم: نزلت في أبي جهل (32). 

ومما يرجح مدنيتها لدى الدكتور فضل، أن الحسن وقتادة-وهما من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما- يقولان بـمدنيتها، وأيضاً: ما أخرجه الإمام مسلم عن أنس بن مالك ? قال: (أغفى رسول الله ? إغفاءة، فرفع رأسه مبتسماً، فقال: إنه أنزل عليَّ آنفاً سورة، فقرأ {إنا أعطيناك الكوثر *  فصل لربك وانحر}[الكوثر: 1 - 2] (33). 

ويقول الدكتور فضل: "وأصحاب هذا القول يقولون: إنها نزلت في الحديبية، وقد رجح النووي وتبعه السيوطي رحمه الله القول بـمدنيتها". 

وفي هذا النقل عدة ملاحظات على الدكتور فضل:

1-أنه لم يوثقه، لا من كتاب السيوطي، ولا من كتاب النووي.

2-أنه بعد البحث تبيَّن أن الإمام النووي، لم يرجح في هذه الآية شيئاً، في شرح صحيح مسلم، وإنما نقل الدكتور فضل ترجيح النووي –بالواسطة- عن السيوطي في الإتقان (34).

3-أن الدكتور فضل تابع الإمام السيوطي في هذا الترجيح، ولم يتأكد من صحته بنفسه.

4-أن الروايات توضح أنها لم تنزل في الحديبية، بل نزلت في المدينة، كما ذكر الإمام النووي في شرح مسلم، أنها نزلت في المدينة، وبالتحديد في المسجد، واستنبط منها الإمام النووي جواز النوم في المسجد (35). فمن الذي قال أنها نزلت في الحديبية؟ لم يوضح ذلك الدكتور فضل. 

و ردّ الدكتور فضل قول الذين قالوا بمكيتها، وتـمسّكوا بقوله تعالى: {إن شائنك هو الأبتر } [الكوثر: 3] وفسروه بأنه الذي لا عقب له، وذكر الدكتور فضل على هذه الروايات أكثر من مأخذ، وهذه المآخذ موجودة في الكتاب، لا أطيل بذكرها (36).

والذي تطمئن إليه النفس أن السورة مدنية، كما رجح الدكتور فضل، ويؤيده ما ذكره الحافظ ابن حجر، قال:" وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن سورة الكوثر مدنية، فهو المعتمد" (37).

ويذكر الدكتور فضل في نهاية بحث المكي والمدني خلاصة آرائه في هذا المبحث:

أولاً: السور المختلف في مكيتها ومدنيتها، ليس كثيرة، بل هي قليلة، بعد ترجيح الدكتور فضل.

ثانياً: يوجد سور مكية فيها آيات مدنية، مثل الحج، واختلفوا في الشعراء والعنكبوت.

ثالثاً: لا يوجد رواية يمكن الاعتماد عليها، تثبت أن هناك آيات مكية في سور مدنية.

الهوامش: 

1- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/380،381)؛ الزرقاني، مناهل العرفان، (1/195وما بعدها). 

2- يوجد تكرار في الكتاب لجملة (والذين نظروا إلى المكان...)، السطر الرابع عشر من الأعلى، انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/380). 

3- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/381، 382).

4- عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/ 382). 

5- الزركشي، البرهان، (2/42).

6- السيوطي، الإتقان، (2/66).

7- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/382، 383).

8- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/383، 384)؛ الزرقاني، مناهل العرفان، (1/199).

9- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/384). الزرقاني، مناهل العرفان، (1/200). 

10- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/385وما بعدها). 

11- هناك خطأ في العبارة في السطر الثاني من الأسفل، عند الحديث عن خصائص القسم المكي، يقول الدكتور فضل: "على حين جاء ضرب المثل في السور المدنية [والصواب المكية] ولكن من حيثية أخرى، وهي الأمثال التي تتصل بتوحيد الله ونفي الشركاء، على حين جاء في بعض السور المدنية ضرب الأمثال، ولكن ليس من هذه الحيثية، فتقرأ في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10]". [عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/385-386)].

12- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/387وما بعدها). 

13- السيوطي، الإتقان، (1/33).

14- انظر: السيوطي، الإتقان، وقد نظمها في أبيات، (1/34).

15- السيوطي، الإتقان، (1/41-51).

16- ونص الحافظ ابن حجر: "وأما عكس ذلك وهو نزول شيء من سورة بمكة تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة فلم أره إلا نادراً". [ابن حجر، فتح الباري، (9/41)]. 

17- عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/389).

18- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/390وما بعدها). 

19- قال الزيلعي: "رواه أبو نعيم في الحلية، وقال: غريب من حديث ابن عون، ولم يكتب إلا من حديث إسماعيل بن يوسف"، انظر: الزيلعي، (جمال الدين)، تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف، دار ابن خزيمة-الرياض، ط1، 1414هـ، (1/450). 

20- أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، (11/521-522).

21- الزركشي، البرهان، (1/199). 

22- ابن الصلاح، (عثمان بن عبد الرحمن)، الفتاوى، تحقيق: موفق عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم-بيروت، 1407هـ، (1/248). 

23- السيوطي، الإتقان، (1/42). 

24- عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/394، 395). 

25- الزركشي، البرهان، (1/202). 

26- النحاس، (أبو جعفر أحمد بن محمد)، الناسخ والمنسوخ، مكتبة الفلاح-الكويت، ط1، 1408هـ، (1/561).

27- ابن حزم الظاهري، (علي بن أحمد)، الناسخ والمنسوخ، دار الكتب العلمية-بيروت، 1406هـ، (1/46).

28- السيوطي، الإتقان، (1/37). 

29- عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/407). 

30- لم يذكر الدكتور فضل قوله السابق في (غذاء الجنان)؛ لأنه لم يقدم دراسة عن السور المكية والمدنية في ذلك الكتاب. 

31- أبو حيان (محمد بن يوسف)، تفسير البحر المحيط، تحقيق: عادل عبد الموجود، علي معوض، دار الكتب العلمية-بيروت، 1422هـ/2001م، (8/520).

32- الآلوسي، (محمود شكري)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث-بيروت، (30/248).

33- أخرجه مسلم

34- السيوطي، الإتقان، (1/41).

35- النووي، شرح صحيح مسلم، (4/113) 

36- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/408). 

37- ابن حجر، فتح الباري، (9/41). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين