ليترك كل منكما ما لايعنيه

كنتُ مُتمدِّداً على كرسي عيادة الأسنان حين سألني الطبيب: أتعرف من هم أكثر المرضَى الذين يُتعبوننا بكثرة أسئلتهم وتدخّلهم في عملنا؟

فلما أجبته بالنفي قال: الأطباء.! إنهم يُكثِرون السؤال، والاعتراض، والاقتراح!

وفي كلامنا عرفت منه أنه يقصد الأطباء عامّة وليس أطباء الأسنان.

تذكّرت هذا الذي ينال من حُسن إسلام المرء؛ وهو عدم تركه ما لايعنيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حُسن إسلام المرء تَرْكه ما لايعنيه). صحيح الجامع.

إن كثيراً من النزاعات لن تقع إذا توقّف الناس عن تدخّلهم فيما لايعنيهم، وهذا يشمل ما ليس في اختصاصهم، وما لاعِلم لهم به.

قال ابن رجب في جامع العلوم والحِكَم: وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب.

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: مَنْ عَدَّ كلامه مِن عملِه؛ قلَّ كلامه إلا في مايعنيه.

وعن أنس رضي الله عنه قال: تُوفِّي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو لاتدري؟! فلعلّه تكلم بما لايعنيه، أو بَخِل بما لا يُغنيه).

ويهمُنا هنا أن نوجِّه الكلام إلى تدخّل أحد الزوجين في عمل الآخر، أو أهله، أو مايحب.

فَمِنْ تدخِّل الرجل في عمل زوجته أن يدخل المطبخ ويحاول تغيير أماكن ماتضعه فيه من أدوات وأطعمة، أو في طريقة طبخ الطعام، أو ما سِوى ذلك.

وكذلك في ترتيب الثياب في الخزائن، وكي الثياب، وتوزيع قِطَع الأثاث، وتعليق اللوحات.

وَمِنْ تدخّل المرأة في عمل زوجها أن تلومه على كثير ممّا يفعله فيه، وتُخطِّئ بعض اجتهاداته وأفعاله.

وقد يعترض بعض الناس على دعوتنا إلى عدم التدخل هذا بأن هذا ممّا يعني كلا الزوجين ويهتم به، فهما في بيت واحد، وطرفا أسرة واحدة، وهذا صحيح، لذلك نقترح ما يلي:

- أن يستأذن كلا الزوجين صاحبه إذا أراد أن يُشير عليه بشيء ينفعه في عمله أو حياته.

- أن لايُكثِر من ذاك التدخّل، حتى لايكون ممِلّاً مُزعجاً.

- أن يتلطّف في اقتراحه أو نصحه أو مشورته، فلايقوله في أسلوب ناقد أو ساخر.

- أن يتأكد من جدوى اقتراحه وسداد رأيه وصواب مشورته قبل أن يقدمها.

أن لايُصرّ عليها، ويترك للزوج الآخر حرية الأخذ بها.

وخير مثال نذكره لذلك مشورة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها للنبيصلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية حين أمر المسلمين بالتحلّل من إحرامهم فلم يستجيبوا له. فدخلصلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها قائلاً: (هلك المسلمون)، وأخبرها ما حدث. فقالت له: يا نبي الله؛ أتحب ذلك؟ ثم قالت: اخرج ثم لاتكلم أحداً حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك.

فخرج رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ولم يُكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك: نَحَر بيده، ودَعَا حالقه فحلقه.. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق لبعض حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً، أي من سرعة استجابتهم لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وشدة ازدحامهم.

لقد وجدنا أم سلمة رضي الله عنها تتدخل بمشورتها بعد أن وجدت حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، ورغم ذلك فإنها لم تصرّح بها إلا بعد استئذانها بقولها: يا نبي الله، أتحب ذلك؟

هكذا يكون تدخل أحد الزوجين في عمل الآخر، بمخاطبته خطاباً حسناً، وبسؤاله إن كان يرغب في تقديم المشورة أو العون له.

أما اقتحامه في أكثر الأوقات، وتدخله في معظم الأعمال، مع فوقية وتعالُم، فأمر لايحسُن، وهو ممّا وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى تركه، وجعله من حُسن إسلام المرء.

ولعلّ هذا يفسر قلة النزاعات حين يكون أحد الزوجين خارج البيت، أو مسافراً، فهذا التباعد بينهما يُقلّل تدخل كل منهما في عمل صاحبه أو حياته.

ولايتعارض هذا مع دعوتنا إلى تقارب الزوجين وتعاونهما، فالقرب يكون في مودّة ورحمة، والتعاون يكون في ما يقوّي الحب في قلبيهما.

إنما هنا نُحذر من التدخّل السلبي، التدخّل المسبّب للمضايقة والإزعاج والتعدّي، الذي يسلب كثيراً من الحرية والخصوصية.

فيا أيّها الزوجان الفاضلان؛ استنيرا بحديثه صلى الله عليه وسلم (من حُسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه) في حياتكما الزوجية، بترك كل منكما ما لايعنيه من أعمال الآخر واهتماماته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين