حملة نابليون على مصر (4)

ساطع الحصري..واللغات الأجنبية في مراحل التعليم

نختم بهذه الحلقة الحديث عن رأي الأستاذ ساطع الحصري في بعض القضايا والمشكلات المعاصرة أو المطروحة حاليًا على بساط البحث. موضوع هذه الحلقة أو المقالة يدور حول رأي الحصري في تعليم اللغة أو اللغات الأجنبية في مراحل التعليم المختلفة، فقد كان يصرّ على أن يبدأ بتعليم هذه اللغات في مرحلة التعليم الإعدادي، أما المرحلة الابتدائية وما يتقدمها في بعض الأحيان، فلا يجوز أن يدرس فيها لغة غير اللغة العربية أو اللغة القومية.

الاستقلال الثقافي

وأشير أولاً إلى أن تجربة الحصري في حقل التربية والتعليم كانت غنية وممتدة، منذ أن بدأ معلمًا للعلوم الطبيعية في بعض ولايات البلقان العثمانية، ومن حين كلّفه الملك فيصل الأول بإدارة التعليم العام في العراق عام 1921- والتي تولى بعدها عمادة كلية القانون- إلى أن عهدت إليه الجامعة العربية بصياغة سياستها الثقافية والتعليمية؛ مرورًا بطبيعة الحال بعمله في سورية التي خرج إليها بعد أن سرّح من وظيفته وجرّد من الجنسية العراقية على إثر فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941. فقد قام في سورية بدرس أحوال المعارف (أي التربية والتعليم) ووضع المشاريع اللازمة لإصلاحها. وقد تبنَّت الحكومة السورية هذه المشاريع والخطط الأساسية التي رسمها بعد أن هيأها الحصري بمشروع قانون حيث قامت الحكومة برفعه إلى المجلس النيابي وتمت الموافقة عليه «بحماس واندفاع» على حد قوله.

وقد عدّ الحصري قانون المعارف العام هذا الذي صدر عن المجلس النيابي في أول عهد الاستقلال بمثابة «صك الاستقلال الثقافي» لأنه ألغى جملة واحدة جميع نظم المعارف التي كانت موضوعة في عهد الانتداب الفرنسي، وقرر في الوقت نفسه الأسس التي يجب أن يبني عليها صرح المعارف الجديد. وقد وصف الحصري تلك النظم السابقة بأنها وضعت معارف البلاد تحت احتكار النظم الفرنسية احتكارًا تامًا، وجعلت الثقافة في سورية خاضعة للثقافة الفرنسية خضوعًا مطلقًا.

وتحدث الأستاذ الحصري مطولاً عن معنى الاستقلال الثقافي بوصفه وجهًا مهمًا أو الوجه الأهم من وجوه الاستقلال، وقال: "إن الاستقلال الثقافي لا يعني كراهة الثقافات الأجنبية، ولا يتضمن قطع العلاقات مع الثقافات الأخرى، إنما يعني تنظيم ثقافة البلاد وتوجيهها حسب ما تقتضيه مصالح الأمة ونزعاتها الخاصة، لا حسب ما يطلبه أو يفرضه الأجنبي، خدمة لمصالحه ومصالح ثقافته» وأشار إلى العلاقة المتبادلة بين السيطرة السياسية والثقافية. وقال: إن الاستقلال الثقافي يعني التخلص من هذه السيطرة الأجنبية ولا يرمي إلا الاستغناء عن ثمار الثقافات الأجنبية.

وقد ذكّر الأستاذ الحصري مستمعيه في المحاضرة القيمة التي ألقاها على مدرج الجامعة السورية بدمشق بأنه حين كان في بغداد اتُّهم بمعاداة النظم الأنكلو أمريكية، وبمحاباة النظم اللاتينية، وأن نفرًا في دمشق الآن يتهمه بمحاباة الثقافة الأنكلوسكسونية! وبمعاداة الثقافة الفرنسية. ثم أعلن أو أكد أنه لا يعادي ولا يحابي ثقافة من الثقافات أو نظامًا من النظم، وقال: «إنما أعارض الاستسلام والخضوع إلى النظم الأنكلو أمريكية والنظم الفرنكولاتينية على حد سواء» وأضاف: «وإذا ما عارضت الأولى في العراق والثانية في سورية فإنما فعلت ذلك لغاية واحدة هي إيجاد نظم تعليمية خاصة بالبلاد العربية، وتكوين ثقافة مشتركة بين جميع الأقطار العربية».

وبهذه المناسبة، وتأكيدًا لما قاله الحصري، فقد ذكر السيد خالد العظم- السياسي السوري وأحد رؤساء الوزراء السابقين- أن برنامج الحصري في دمشق كان يتلخص في إلغاء تعليم اللغة الفرنسية في الصفّين الرابع والخامس، والبدء به من الصف السادس فقط أي اعتبارًا من المرحلة الإعدادية في ذلك الحين. وعلل السيد العظم ذلك بأن الحصري كان «مدفوعًا ببغضه للإفرنسيين»!! والنتيجة أو المشكلة التي ترتبت على هذا الإلغاء أو الإرجاء من وجهة نظر السيد رئيس الوزراء السابق الذي كان متشبعًا بالثقافة الفرنسية أن «كل من ذهب إلى فرنسا لاستكمال علمه يشعر بهذا النقص ويستحيل عليه فهم ما يلقيه الأستاذ من دروس مما كان يجبره على البقاء سنة إضافية لتعلم اللغة» [انظر مذكرات خالد العظم، المجلد الأول ص257].و تحضرني أو تلحّ عليّ في التعقيب على هذه الكارثة التي ذكرها العظم كلمة بعض رجال المسرح والتمثيل: يا للهول!!

اللغة والتربية

لم يكن ساطع الحصري مدفوعًا ببغض فرنسا، بل لم يكن يتحدث بلسان السياسة أو المصلحة الخاصة- مع الإشارة إلى البون الشاسع في ذلك الحين بين السياسيين والمثقفين- ولكنه كان يتحدث بلسان التربية؛ يقول الحصري: إن تعليم لغة أجنبية لتلاميذ لم يتقنوا بعد لغتهم القومية لا يتفق مع قواعد التربية الصحيحة، بل ينافي مبادئ هذه التربية، لأن «تجزئة المشكلات ومعالجتها واحدة بعد أخرى» يعدّ من أوّليات قواعد التربية والتعليم، وتعليم التلاميذ الصغار قواعد لغتين مختلفتين في وقت واحد يخالف هذه القاعدة ويعيق نموهم الفكري من جرّاء هذا التشويش والإرهاق. ويستشهد بعد شيء من الشرح والتفصيل بمقاطعة جنيف في سويسرا حيث اتخذت إدارة المعارف في تلك المقاطعة قرارًا بعدم تدريس لغة ثانية قبل السنة السادسة من الدراسة الابتدائية، علمًا بأن جنيف فوق ما فيها من الأجانب والأجناس تنتسب إلى الاتحاد السويسري الذي يعتبر اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية «رسمية» في وقت واحد وعلى حد سواء!

ويضيف الحصري أن الأضرار التي تنتج من تعليم التلاميذ الصغار لغتين في وقت واحد، تكتسب خطورة خاصة بالنسبة إلى أولاد الناطقين بالضاد، وذلك لعدة أسباب منها:

أولاً: أن اللغة العربية والخط العربي ليسا من السهولة بمكان، بل إن دقّتهما بالغة، ومشكلاتهما كثيرة. وهما يتطلبان من الأطفال جهدًا ذهنيًا أكبر بكثير من الذي تتطلبه سائر اللغات والخطوط الأوروبية.

ثانيًا: إن الفروق الموجودة بين اللغتين العربية واللغات الأوروبية أكبر بكثير من الفروق الموجودة بين مختلف اللغات الأوروبية.

ثالثًا: إن الطفل العربي يعلَّم في المدرسة اللغة العربية الفصحى. علمًا بأن الفروق القائمة بين اللغات أو اللهجات الدارجة وبين اللغة الفصحى ليست فروقًا ضئيلة، وربما كانت كذلك متفاوتة- فيما نلاحظ- أو تزداد اتساعًا على مستوى الأقطار العربية. وهذا كله يكلف التلميذ في البلاد العربية جهودًا تفوق الجهود التي تكلفها أمثاله الأوربيون.

ثم يرد الحصري على الذين لا يزالون يتمسكون بمبدأ تعليم لغة أجنبية في المدارس الابتدائية بحجة «أن حاجتنا إلى اللغات الأجنبية أكبر من حاجة الأوربيين لها» يرد مقرًا هذه الحاجة يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار، ولكن في مدارس المرحلة الثانية من التعليم لا في مدارس المرحلة الأولى. ثم يقول: «إن هذه الحاجة تستوجب الاعتناء باللغات الأجنبية في المدارس الثانوية والمدارس المهنية والمعاهدات العالية.. ولكنها لا تبرر قط تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الابتدائية».

العربية في الخليج

ونضيف إلى هذه الأسباب والوجوه الأوروبية والعربية أسبابًا إضافية أخرى على مستوى دول الخليج العربية، حيث ينتشر نظام الخدم والمربيات الأجنبيات على نطاق واسع، الأمر الذي لا يتوفر معه للطفل تربية لغوية سليمة، وبخاصة في المرحلة المبكرة من عمره، أو في هذه المرحلة اللسانية التكوينية إن صح التعبير، وأعني مرحلة تفتيق اللسان بالحروف والكلمات بوصفهما أدق المراحل وأخطرها على الإطلاق، قبل مرحلة العامية والفصحى، ومرحلة المقارنة بين اللغات. الأمر الذي يقيم حاجزًا خطيرًا بين الطفل وبين بقاء استعداده للنطق بجميع حروف العربية وكلماتها وجملتها، أو تراكيبها على نحو تام وسليم. وبحيث قد تعجز معه مرحلة التعليم الابتدائي كلها بالإضافة إلى ما قد يسبقها عن التصحيح والتقويم، أو عن التعليم على الوجه المطلوب.

فإذا جرى مزاحمة هذه اللغة الشريفة في الصف الرابع على سبيل المثال فإننا نعتقد أن اللسان العربي سوف يضعف أو سوف يزداد ضعفًا على ضعف، لأن الوضع القائم حاليًا غير مطمئن، أو لا يبعث على الاطمئنان. وما يزال كثير من الطلاب والطالبات في مختلف مراحل التعليم يتعثرون في قراءة بعض النصوص، أو يقرؤونها مشوبة بالعامية أو أقرب إليها في بعض الأحيان، ناهيك عن الأخطاء اللغوية التي لا يحصيها العدّ!! فضلاً عن مثل هذه الأخطاء في الكتابة وأخطاء الصياغة والتعبير!

أما إذا تم البدء بتعليم اللغات الأجنبية من الصف الأول الابتدائي فإن اللغة العربية سوف تكون مرشحة للمسح والانقراض! ولنا أن نتصور النتائج «الثقافية» المفجعة التي تنبني على ذلك، وإن شئنا قلنا بعبارة أدق: النتائج الثقافية الدينية الحضارية.

الحلقة الثالثة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين