شرف القدس في القرآن

 
د. أحمد نوفل



في مفاوضات مدريد ، سأل شاميرُ عشراوي وعبدَ الشافي : إن التوراة ذكرت القدس كثيراً ، فهل ذكر القرآن القدس ؟
ونظرت حنان إلى حيدر ونظر هو إليها يستغيث كل منهما بالآخر ، فما عندهما من فكرة!


وقبل أيام كرر مقولة شامير أحد مسؤولي دولة العدوان لعله " البودي جارد " فأعاد السؤال نفسه ، وهم قوم يدرسون على شيطان واحد ، وكأنهم كورال أو فرقة موسيقية .
ونقول في الجواب عن هذا السؤال المتحدي المتغطرس: إن حديث التوراة عن القدس وعن قرى لبنان والأردن وفلسطين والعراق ومصر ، دليل على أنها ليست كلام الله .


وطريقة القرآن في الحديث عن الأرض المقدسة ودرّتها القدس ، وجوهرة القدس : المسجد الأقصى ، هذه المنهجية في الحديث تقطع وتجزم بأن القرآن كلام الله .


فالتوراة كتاب كتبته أيدي البشر وزعمت أنه كلام الله ، والذي فيه من كلام الله لا يكاد يَبين ولا يُبين !


والتوراة بالتالي كتاب في الجغرافيا السياسية تردد أسماء البلدات والكفور والقرى والنجوع وأسماء الموظفين ، وأسماء الأنهار والجداول وينابيع المياه ومنابع الثروات مائية وغير مائية .. هذا الكتاب بهذا التفصيل دلالة على الصنعة البشرية ، ودليل على الأطماع ، فمن " تحليل الخطاب " تعلم المستكن في السرائر والضمائر ( إن كان هناك ضمائر! )


وليس هذا تهرباً من جواب السؤال ، فهل ذكر القرآن الكريم القدس ؟ والجواب نعم ، بالقطع ، ولكن بطريقة القرآن الربانية . ولقد جعل القرآن للقدس مكانة ومنزلة وشرفاً لا يطاوله شيء ، اللهم إلا المسجدان الأعظمان فهما أعلى ما في الأرض ، وثالثهما المسجد الأقصى .


وإليك الجواب في بضع وعشرين نقطة ، بدءاً من القرآن ثم بعض ما في السنة ، وللموضوع عود متجدد إن شاء الله :
1- لقد جعل الرب الجليل سبحانه بيت المقدس ومسجدها الأقصى قبلتنا الأولى ، وهو يعلم أن شأن بيته الحرام العتيق أعظم وأول بيت للناس في الأرض ، ويعلم أن المسلمين سيتحملون أذى كثيراً من الذين أوتوا الكتاب من أجل هذه القبلة ومن أجل التحول عنها ، ومع هذا جعله قبلتنا ، مع كل الملابسات المذكورة ، وبقي كذلك طيلة العهد المكي وطيلة ثمانية عشر شهراً من العهد المدني أي بمعدل 68% من مدة البعثة النبوية ، وما ذاك إلا ليربط المسلمين بهذا البيت ، فيظل طيلة التاريخ إلى قيام الساعة قبلتنا الأولى ، ويظل في سويداء القلب وتظل هذه الحيثية ملازمة ملابسة له لا تحول ولا تزول . فلما أدى هذا التوجه غرضه وحقق أثره وترسخ معناه وترسخ في القلب منزلة الأقصى، حَوَّلَنا مولانا إلى البيت العتيق " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام .." " سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ولا نذكر بقية الآيات فالمعنى واضح والنصوص قريبة .


2- أن الله جعل فلسطين مُجاوَرَ خليله إبراهيم خليل الرحمن ، وهو أبو الأنبياء ، وأعظم رسل الله ، خلا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وما ذاك إلا ليزيدها شرفاً على شرف ، وقدراً على قدر ، وعظمة على عظمة ، وبهاء على بهاء ، ونوراً على نور ، ومنزلة على منزلة .فارتبطت فلسطين باسم الخليل ، وارتبطت واحدة من أعظم وأهم وأقدس مدن فلسطين باسم " الخليل " فصار اسمها اسمه . وعندما أسلم إبراهيم أمره إلى الله فقال بعد أن ضاقت بلاده به ولا نقول العراق ، فلسنا نعتمد التوراة مرجعاً ولا نثق بمعلومة وردت فيها ، ولا وثيقة معتمدة إلا هذا الكتاب ثم السنة الصحيحة .. أقول عندما عزم إبراهيم على الهجرة وجّه وجهه إلى الله فقال : " إني مهاجر إلى ربي " العنكبوت26 " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين " الصافات99 فوجهه الله إلى الأرض الأثيرة عنده ( بعد المكانين الأطهرين ) وجهه إلى فلسطين ، دلالة على اختيارها منه سبحانه وتفضيلها ، وهو " يخلق ما يشاء ويختار " فاختار من الزمان ومن المكان ومن الإنسان ..


3- أن الله تعالى لما أراد أن يسري برسوله ويعرج به إلى السماوات العلى ، جعل الأرض المقدسة وبيت المقدس بالذات ومسجده الأقصى على وجه الخصوص ، منتهى رحلة الإسراء ، ومبتدأ رحلة المعراج ، وبوابة السماء ومبتدأ رحلة المعراج وجعلها منتهى رحلة المعراج .ومبتدأ رحلة العودة إلى المسجد الحرام .
4- أن الله تعالى جعل السورة التي فيها ذكر الإسراء وذكر المسجد الأقصى في قلب المصحف الشريف ، بها يبتدئ الجزء الخامس عشر ( والترتيب كما تعلمون توقيفي ) والقلب مكان القادة ، وسورة الإسراء قائدة المسبحات وقائدة النصف الثاني من القرآن إن كانت الفاتحة إمامة نصفه الأول . فسبحان من رتب قرآنه هذا الترتيب المعجز فأول القرآن " الحمد " وأول النصف الثاني " سبحان " والكلمتان توأمان قرينتان : " فسبح بحمد ربك "


5- أن مولانا العظيم سبحانه لم يسم مسجداً باسمه إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، ويكفي هذا شرفاً ، ويكفي شرفاً أن الله تعالى قرن بين المسجدين وسماهما ، وهما أول بيت وثاني بيت وضعا في الأرض لعبادة الله ، والاثنان بناهما خليل الله ، وارتبط اسمه بهما وبمحمد عليهما السلام . وتأمل إن المسجد الأول جاء في السطر الأول من السورة وهو الأول في الوجود والبناء والأول في السورة ، والأول في مبتدأ الرحلة ، والمسجد " الأقصا " جاء في السطر الثاني في أوله ، وهو ثاني بيت ، والطرف الثاني للرحلة .. فسبحان من هذا كلامه . ولا بد أنك لاحظت الرسم القرآني لكلمة " الأقصا" بالألف الممدودة لا بالألف المقصورة ، وإني لأشتم منها أن راية هذا المسجد وأن قامته ستظل قائمة مرفوعة عزيزة كريمة إن شاء الله .


6- أن المسجد الأقصى إحدى المعجزات التي تثبت ربانية القرآن .. فكيف ذاك ، هذا ما نقف عليه في الحلقة التالية إن شاء الله    


الحلقة الثانية


بيننا وبين هؤلاء المجرمين معركة مصيرية يحسمها لصالحه من كان أشد حباً للقدس ، وأكثر استعداداً للتضحية في سبيلها ومن أجلها . فلنفجر ينابيع الحب في قلوبنا لزهرة المدائن وسيدة الحواضر وبهية المساكن ، وحبيبة السماء ، ومسرى سيد الأنبياء !


وتتفجر ينابيع الحب بمعرفة قدرها ومنزلتها عند الله وفي كتاب الله ، وعند رسول الله ، وعند صالحي عباد الله .. تتفجر ينابيع الحب إن أدركنا منزلتها عند كل الحضارات والأمم المتعاقبة وأنها في سرة الأرض ، ومفصل الربط بين قارتي الإسلام : آسيا وإفريقيا ..


أما قدرها عند الحضارات ، فما من حضارة عبر التاريخ إلا حاولت أن تزين ملكها بهذه الجوهرة العظيمة والدرة الغالية .
ولئن كانت فلسطين غالية في كل وقت ، وقلبها القدس الأغلى بين المدائن فهي في وقت محنتها أقرب إلى القلب وأغلى ، وفي دائرة الحدث ودائرة الاهتمام وبؤرة التركيز ..


ولئن تراجعت قضية فلسطين من مركز الاهتمام إلى الحواشي والأطراف ، فقد آن منذ زمان أن نعيدها إلى موقعها ومركزيتها بين قضايانا ، فلا شيء يتقدم على القدس وأقصاها .. كيف لا وهي إلى أعظم رسل الله تنتسب ؟! وكيف لا والذي يهددها أخطر أعداء الأمة وأقذر أعداء الإنسانية ؟! لا صمت ، لا سلبية ، لا وهن ، لا تهاون ، لا تردد ، لا استرخاء ، لا عجز أو ادعاء العجز ، لا تفريط .. مضى كل هذا ، وهذا زمان الثبات والثابتين ، والتضحية والمضحين ، هذا زمان المبدئيين الميدانيين الباذلين ، أما الآخرون فليرجعوا إلى الساقة . وهذا مآل كل من استنزف الطاقة ، واستنفد المخزون ، وفقد القدرة على مواصلة درب الكفاح ! نعود إلى ما كنا فيه من تعداد نقاط تؤشر إلى منزلة القدس في القرآن ، وكنا توقفنا عند النقطة السادسة التي مؤداها أن القدس وأقصاها ومسجدها المقدس المبارك ثالث أخويه ، معجزة قرآنية تثبت ربانية القرآن الكريم ، وكيف ذاك ؟ هذا ما وعدنا بتفصيله في هذه الكلمات ..


إن الله تعالى قد بيّن في الصفحة الأولى من سورة الإسراء المباركة أن اليهود سيفسدون في الأرض مرتين ، والأرض هنا متصلة متعلقة بالأرض التي بدأت بها الرحلة وانتهت إليها ، لا الأرض مطلقاً ، لأن الإفساد حينئذ لا يحصى ولا يعد ! فكلمة “ مرتين” حددت الأرض بالمسجدين ، والأرض المحيطة بهما .. وهذه بحد ذاتها معجزة .


ومعجزة ثانية من أين يعلم من سوى الله أن هؤلاء الشراذم اللاجئين السياسيين على العرب في جزيرتهم سيصبحون قوة طاغية ، وكلمة مسموعة عالية في العالم ؟ “ ولتعلن علواً كبيراً “ والعلو الكبير سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي وعسكري وحضاري و ..
ومن أين سيعلم من سوى الله ، أن المسلمين المستضعفين في مكة “ والمحاصرين “ سيصبحون قوة تفتح المسجد الأقصى وقريباً من وقت نزول هذه السورة ، وإنما قلنا قريباً ، لأن الواقع شهد به ، ولو لم نعش مرحلة تجلي هذا النص عملياً لكفانا التعبير بالماضي : “ بعثنا عليكم عباداً لنا ..” وهذا المقصود منه ليس المضي وإنما وشوك الوقوع . وقد كان فهذه معجزة ثالثة تثبت ربانية القرآن .


ومن أين يعلم من سوى الله أن الكرة سترد للمجرمين على أمة محمد صلى الله عليه وسلم : “ رددنا لكم الكرة عليهم “ ومخطيء من فسر الآية بنبوخذ نصر أو الرومان ، لأن الكرة لم ترد لبني إسرائيل على أحد إلا على أمة محمد ، بتقصيرها بطبيعة الحال ، وليس هذا مكافأة لليهود ، ولكنه عقاب على تهاوننا وتفريطنا ، وعمالة بعضنا ! فهذه معجزة رابعة !


ومن أين يعلم من سوى الله أن الأموال ستتدفق على دولة العدوان النازية في وطننا المحتل التي تسمت باسم “ إسرائيل “ وهو منها براء ؟


وفي خطاب “ لصديق العرب “ أوباما ، يقول إنه سيقرر ثلاثين ملياراً من الدولارات لدعم قوة “ إسرائيل “ ، وذلك في خطابه أمام ( آيباك ) هذا اللوبي الذي يحكم العالم ، وهو الحكومة الخفية التي تدير سياسة الأرض ؟ فهذه معجزة خامسة!


أما “ وبنين “ فلها وحدها وقفة ، فلا يقال للعجائز “ بنين “ ، وإنما هذا وصف لعنصر الشباب ، الذي تريده دولة العدوان لتكوين عصاباتها ، وفي هذا نذكر “ الكتاب الأبيض “ الذي حاولت به بريطانيا امتصاص نقمة العرب والفلسطينيين ، إذ أصدرته ، وقالت فيه : تمنع هجرة اليهود إلى فلسطين .. ثم بخط صغير في الهامش : باستثناء من سن 16-40 . أي “ بنين “ ، فهذه معجزة سادسة .


ومن الذي يقرأ الآتي فيعلم أن جيش دولة البغي سيتفوق على سبعة جيوش مجتمعة سنة 48 في العَدد والعُدد وفي النتائج ، وكذلك سنة 67 ، ولا يزال جيش العدوان في دولة البغي متفوقاً كمّاً ونوعاً على مجموع الأمة العربية “ وجعلناكم أكثر نفيراً “ فهذه معجزة سابعة ! مع أن النفير شاملة ، وهي بهذا المعنى متفوقة ، اقتصاداً وإعلاماً وسياسة ، هذا إن كان للعرب سياسة !


ومن الذي رتب أن مرحلة ليسوءوا وجوهكم تسبق مرحلة دخول المسجد وهذا الذي يحدث الآن ، لقد بدأت مرحلة إساءة الوجه ، وموت السلام الذي جمّل وجه إسرائيل .. ولا تفصيل الآن ، فهذه معجزة أخرى .


وأما المعجزة التي ستتحقق في بضع السنين القادمة فهي دخول المسجد الأقصى لا بالسلام ولكن كما دخلناه أول مرة بالفتح والقوة والعسكر .


والمعجزة العاشرة : “ وليتبروا ما علوا تتبيراً “ والمجرمون يرفعون بنيانهم لخنق الأقصى .. وسيدمر . ولاحظ أن “ علوا “ بضمير الغائب أي إننا سنحولهم إلى ضمير الغائب . فهذه المعجزات العشرة الشاهدة للقرآن من بركات القدس والأقصى .


وبعد ، فيتحدانا هذا العدو المتغطرس المدعي بأن القدس ليست مهمة في نظر الإسلام والمسلمين ، إلى حد اقتراح كلنتون ( ليس المرأة ) بإزاحة الأقصى وإعادة بنائه في أي مكان ! فهل نثبت لهذا العدو نقيض أقواله ، بقوي الفعال ، لا بِدَويّ الأقوال .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين