العيد ومنهج الله فيه

القصد والاعتدال والوسطية، منهج رباني، تعبّدنا الله سبحانه وتعالى به، في كل شأن من شؤون حياتنا، فالتوسط والاعتدال، هو الكمال، وكلما انحرف الإنسان عن الوسط، اتجه إلى النقص والابتعاد عن الكمال، فالتوازن هو قانون الحياة الرشيدة، التي أرادها الله لنا، والمسلم الحق: هو المسلم المتوازن في كل مجالات الحياة، فالتزام منهج الله في التوسط والاعتدال فيه نجاح الإنسان، وراحته وسعادته، وكلّ خروج عن هذا المنهج وشطط في أي ناحية من مناحي الحياة، نتيجته الفشل والمعاناة والبؤس قال تعالى: (ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) .

والعيد مناسبة عظيمة يعبر فيها المسلم عن التزامه بهذا المنهج القويم، في التوازن والاعتدال وعدم الإسراف، على عكس ما نسير عليه اليوم، نجعل من الأعياد فرصة للخروج على منهج الله في الاعتدال، وذلك في الإسراف في الطعام والشراب، والاستهلاك للحاجات الضرورية وغير الضرورية، ومما لا شك فيه أن زيادة الاستهلاك تعني: مجاوزة الحد المباح إلى المحظور المحرم قال تعالى: (والَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) ، أي حداً وسطاً، لا يحرم الإنسان من تناول حاجته من متع الحياة التي أباحها الله له، ولا يتجاوز الحد المطلوب الى الإسراف والتبذير المرفوض، (وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) ، وعلى هذا سارت السنة النبوية المطهرة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة) ، فالزيادة في استهلاك المواد الغذائية والتنويع في تقديم مختلف أنواع الضيافات بغرض المباهاة والتفاخر بها واختيار أفخر الثياب وأغلى (الماركات) للتبختر بها في الأعياد تعد من الإسراف المنهي عنه، وهي أسوء استخدام للنعم التي أنعم الله بها على العباد، ليحسنوا الانتفاع بها، وهي من العادات السيئة الدخيلة على المسلمين، في أعيادهم، جعلتهم يبتعدون عن منهج الله وينسون إخواناً لهم في وطنهم وفي شتى بقاع الأرض يعانون من الجوع والعري والحاجة والفقر والتشرد والحرمان. 

ولو بحثنا عن سبب زيادة الاستهلاك في الأعياد، وما الذي يدفع الناس إلى هذا الإسراف البيّن في المطعم والمشرب والملبس لوقفنا عند الأسباب التالية: 

أولا: ضعف الإيمان، والبعد عن المنهج، وتهافت الوازع الديني عند بعض الناس، مع توفر المال، وقلة التدبير والتعقل، فالمال بيد ضعيف الإيمان، البعيد عن منهج الله، أصل كل الشرور والفساد، يغري المرء بالفسق والفجور، لأنه يمكنه من كل ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء، فينغمس فيما تشتهيه، ويتعود الترف والإسراف، وتسيطر عليه الشهوة والأثرة، فلا تطيق نفسه جهاداً ولا عبادة، ولا صبراً على مشتهياتها. 

ثانياً: التقليد الأعمى لدى بعض ضعاف الإيمان، الذين ينظرون إلى غيرهم، ممن غرقوا في مهاوي الترف، والسرف والرفاهية، وتناسوا سر المنهج الإلهي القائم على الشعور بمعاناة الآخرين، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، فاستعاضوا القشرة باللبّ، وأضحت العادات عندهم مقدمة على العبادات، وأصبحت العبادات عندهم طقوساً ومظاهر جوفاء، فينقلب العيد لديهم من مناسبة للبر والتعاون وصلة الرحم والتراحم والإيثار والبذل والعطاء والصدقات إلى مهرجان للتباهي بالمأكل والمشرب والملبس هذا إن لم يقطعوه بالملاهي والمعاصي والشهوات المحرمة

ثالثاً: التأثر بالإعلانات التجارية، التي تمارس دوراً كبيراً في خداع الناس ودفعهم إلى المزيد من الشراء لأشياء كثيرة فائضة عن حاجاتهم الأساسية، وهذا هو الإسراف المنهي عنه بعينه، والإعلانات اليوم، تمارس دوراً كبيراً في التلاعب بعواطف الناس، وتنمّي لديهم حبّ الظهور والتميّز والزهو، وما إلى ذلك من خلجات النفس، التي تسعى الإعلانات لإثارتها وتكون هذه النفس مهيأة للوقوع في هذا الفخ، نتيجة بعدها عن منهج الله في استخدام المال، وعدم الإسراف فيه، فتقع الأسرة في هذه الدائرة الاستهلاكية، فتضغط الزوجة لشراء المزيد، لتباهي أترابها وجيرانها، ويلح الأولاد في مطالبهم، مسايرة لرفاقهم، ويقع رب الأسرة نفسه في هذا الوهدة إرضاءً لحاجات نفسه الشرهة للشراء من جهة ولحاجات أسرته التي تلح من جهة ثانية. 

ولا يمكن في حال من الأحوال أن يكون العيد بهذا الشكل البعيد عن منهج الله، ولا يمكن في حال من الأحوال أن تكون هذه صورته وحقيقته،

العيد: إظهار للفرح بفضل الله ونعمته على عباده باستكمال صوم شهر رمضان والفوز برضوان الله ورحمته ومغفرته (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَ?لِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) 

العيد: رسم الفرح والابتسامة على وجوه أضناها الفقر والبؤس والحرمان والتشرد

العيد: نقاء النفوس من الأحقاد والضغائن والرذائل 

العيد: صلة للأرحام وتواصل بين الجيران 

العيد: كبح النفس عن شهواتها وترويضها على الاعتدال، وأخذها بالشدة لامتثال أوامر الشرع القاضية بالتوازن، وعدم الإسراف في الإنفاق، وترشيد الاستهلاك وخفضه. 

وسأقف عند صورة واحدة من صور تخفيض الاستهلاك وترشيده في العيد والتي يمكننا الأخذ بها وتنفيذها بسهولة ويسر، لنرى نتائجها الإيجابية على الأمة، إذا راعت منهج الله في العيد 

لنفرض أن مدينة يقطنها أكثر من مليون نسمة، منهم ما يقارب مئتي ألف شخص فقط من الأغنياء الذين يقدمون في العيد ثلاثة أصناف أو أربعة أصناف من الضيافة الفاخرة، وأراد هؤلاء المئتي ألف الاقتصار على نوع واحد من الضيافة المقبولة، وتوفير ثمن الأصناف الثلاثة لمشروع خيري يقدم لفقراء المدينة 

ولنفرض أن كل رجل من هؤلاء الأغنياء وفر مبلغ (س) من ثمن الضيافات الزائدة اضربه بمئتي ألف (س× 200000 =؟) أضف إليه صدقات الفطر وزكاة المال ستكون النتيجة مبلغا ضخماً لا يستهان به يمكن توظيفه في النهوض باقتصاد هذه المدينة وسد حاجة أكثير فقرائها 

هذه صورة واحدة ( قد تكون بسيطة) من صور ترشيد الاستهلاك والإنفاق في العيد، فإذا أضفنا إليها المبالغ الهائلة التي تصرف في أمور يمكن الاستغناء عنها، ولا ضرورة لها، كالإنفاق المتزايد في المأكل والمشرب والملبس، والحفلات والنزهات المباحة فقط، لتوسع وعاء هذا الفائض الممكن الاستفادة منه في رفع مستوى المعيشة في البلدان الإسلامية، شرط أن يرتبط بالمنهج الإلهي القائم على عدم الإسراف والبعد عن التقتير،)يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) . 

فهل تتنبه الأمة؟.. وتسلك طريق القصد وتجعل من أعيادها فرصة ومجالاً لامتلاك الإرادة القوية، التي تمكنها من الوقوف في وجه العادات السيئة في الإسراف المؤدي إلى مزيد من النهم والشراهة للأطعمة والأشربة، لتتحقق منهج الله تعالى القائم على القصد والاعتدال والوسطية وتحقق في الوقت ذاته الهدف المنشود في إصلاح اقتصاد البلد ورفاهية الأمة.

من كتاب (رمضان منهج متكامل في تربية الفرد وبناء المجتمع)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين