امحُ من نفسك غرورَها

قصة مؤثرة سجّلها *الشيخ علي الطنطاوي* رحمه الله :

لم أتعرض مدة بقائي في بغداد إلى نزاع السنة والشيعة، لأني كنت أحاول التوفيق لا التفريق والوئام لا الخصام، حتى إذا جئت البصرة وكان الطلاب فيها يسألونني فأجيب بما أعرف من قول أهل السنة، لما كان ذلك ساء مشايخ الشيعة في البصرة فبعثوا إلي: إذا شئت المناظرة فناظرنا نحن العلماء، لا الطلاب الذين لا يعلمون.

وكنت من صغري أحب المناظرة وقد أوتيت جدلا، فقلت: نعم. وتواعدنا على اللقاء، فبلغ ذلك المتصرف فخاف الفتنة فمنعنا، ثم أذن لنا على أن تكون المناظرة بإشرافه، نأتي نحن بخمسين رجلا وهم بخمسين، وتؤلف هيئة للتحكيم نحن ننتخب عضوا منها وهم عضوا، والثالث يختاره المتصرف.

وجاء يوم المناظرة، ودخلت وأنا واثق من نفسي، أو مغتر بها معتمد عليها. وبدؤوا هم الكلام، وكان ينبغي أن نختار بالقرعة البادئ منا. وجعلوا يسألونني، والمسؤول في المناظرة كمن يتلقى الهجمات في المعركة، والسائل هو المهاجم. وهو متمرسون بالمناظرات متمرنون عليها ممسكون بأطراف الخلاف.

لما رأيت ذلك وعلمت أني سأنهزم صغرت علي نفسي وتبخر منها غرورها وعادت إلى حجمها، فتوجهت بقلبي إلى الله منكسرا متوقعا الهزيمة، وقلت: يا رب، أنا هنا أدافع عن سنة نبيك وعن مذهب أهل الحق، فلا تؤاخذني بما كان مني وانصرني، فإنك تنصر الحق الذي أذب عنه.

ومن توجه إلى الله بالانكسار رزقه الله عزة الانتصار، ومن اعتمد على نفسه وكله الله إليها. وكنت أدعو مضطرا واثقا من الإجابة، فما هي إلا لحظات حتى انفسح لي طريق إلى أخذ المبادرة لي بالكلام. وكان الكلام على بيعة أبي بكر، فقلت لهم: كيف بايع علي أبا بكر وأنتم -شيعة علي- تنكرون خلافته؟ هل بايع مختارا أو مكرها؟

إن قلتم إنه مكره سلبتموه أحد شرطي الخلافة وهو القوة، إذ لا يصلح لها إلا المؤمن القوي. ثم إنكم خالفتم بذلك الواقع لأن عليا رضي الله عنه كان أعز من أن يكرهه أحد على ما لا يريد، بدليل أنه تأخر عن البيعة عدة أشهر فما عرض له أحد، وأن سعد بن عبادة لم يبايع فلم يجبره أحد على البيعة.

فإذا كان قد بايع باختياره لم يبايع مكرها فإنني أسألكم: هل بايع وهو يعلم أنه يبايع صالحا للخلافة أهلا لها وأنه بذلك يرضي الله، أم بايع ابتغاء الدنيا؟ لقد كان علي رضي الله عنه أتقى لله من أن يبايع من لا يرى صلاحه للخلافة.

فحاولوا تبديل الموضوع وصرف الكلام عن وجهته، فقلت: لا، هذا هرب من الجواب وأنا ألزمكم به. واشتد الخلاف فطلبت من لجنة التحكيم أن تقول كلمتها، فقالت لهم اللجنة: إنكم هربتم من الجواب، وإن لم تجيبوا لزمتكم الحجة.

وانتهت المناظرة. وخرجت وأنا أنفض عني غبار الموت. ولعله أشد من الموت بأيدي اللاطمين في الحلة، لأن ذاك موت فردي لي وهذه هزيمة لمبدأ أقمت نفسي بحماقتي محاميا عنه، ودخلت المعركة معتمدا عليها لا على الله.

وحفظت بعدها الدرس، فلم أدخل معركة إلا بعد أن أمحو من نفسي غرورها وأعتمد في النصر على خالقها ومسيرها.

وكذلك يكون النصر في المعارك كلها: معارك الكلام ومعارك الحسام.

*ذكريات* 3: 386-388

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين