القصة المذهلة لمعركة عين جالوت

كانت معركة عين جالوت من المعارك الفاصلة في التاريخ وكانت معركة عظيمة بكل المقاييس، على أن أحداً لن يدرك عظمتها الحقيقية حتى يعرف قصة الغزو المغولي الذي عصف بالعالم القديم في القرن الهجري السابع.

لقد كان ذلك الغزو واحدة من أكبر الكوارث في تاريخ البشرية كلها، حتى إن المؤرخين الأوربيين (الذين يميلون إلى التحفظ عادة) يقدّرون ضحاياه بنصف سكان الصين وروسيا وهنغاريا وثلاثة أرباع سكان آسيا الوسطى وفارس والعراق، ويقولون إن المغول دمروا معظم المدن الكبرى في تلك البلاد.

* * *

بدأ الاجتياح المغولي من شرق العالم الإسلامي، فكانت أولى ضحاياه الدولة الخوارزمية التي سقطت سنة 618 هجرية، وهي دولة عظيمة لا يعرف أكثرُ الناس عنها إلا القليل، وقد استمرت مئة وخمسين عاماً في مناطق ما وراء النهر، فغطّت أراضي إيران وأفغانستان وتركمانستان وأوزبكستان وجنوب كازاخستان والقسم الغربي من طاجكستان وقرغيزستان.

بعد ذلك اجتاح المغول الصين وكوريا، ثم جورجيا وأرمينيا ووسط أوربا، وصولاً إلى روسيا التي سقطت في أيديهم بعدما أبيد الجيش الروسي بكامله تقريباً في معركة نهر سيت. واحتلوا بعدها أوكرانيا ورومانيا ومولدوفا وروسيا البيضاء وجزءاً من بولندا ووصلوا إلى حدود فنلندا، ثم سحقوا تحالف جيوش هنغاريا وكرواتيا وفرسان الهيكل في معركة نهر ساجو ووصلوا إلى فينّا أو قريباً منها. أي أن جيوش المغول احتلت وسط أوربا وشمالها وصارت على بعد نحو خمسمئة كيلومتر من السويد وألف كيلومتر من باريس!

وهكذا نجح المغول في السيطرة على ثلاثة أرباع قارة آسيا ونصف قارة أوربا، من بحر اليابان شرقاً إلى حوض الدانوب وحدود فنلندا غرباً، أي أنهم سيطروا على ما يقرب من ربع مساحة اليابسة على الكرة الأرضية! وصنعوا ذلك كله دون أن يتعرضوا لأي هزيمة على الإطلاق.

* * *

ثم انتقل هجوم المغول إلى المشرق العربي، فاحتلوا العراق ودمروا بغداد وقتلوا أكثر أهلها (656)، واتجهوا بعدها إلى الشام، فاجتاحوا حلب وأعملوا السيف في أهلها خمسة أيام بلياليها ودمروا قسماً كبيراً منها (658)، ثم دمروا حارم وميّافارقين، فاستسلمت بقية مدن الشام الكبرى (دمشق وحمص وحماة وبعلبك) دون قتال، وسقطت دُوَيلات وممالك الأيوبيين وانتهى حكمهم في بلاد الشام.

 

بسقوط الشام انفتح الطريق إلى مصر التي كانت تحت حكم المماليك، فأرسل هولاكو رسله إلى سلطانها الملك المظفر قُطُز يدعوه إلى الاستسلام. وهنا كان موقف رجولي لقطز لن ينساه التاريخ، فقد استشار الأمراء فجبنوا وترددوا لأنهم كانوا يظنون -من هول ما سمعوه عن المغول- أنهم قوة لا تقهر. فعقد السلطان العزم على القتال، وأعلن الحرب بالطريقة المألوفة في ذلك الزمن: قتل رسل هولاكو! ثم استصفى من أمراء المماليك أكثرَهم شجاعة وعزيمة وشكل جيشاً صغيراً خرج به من القاهرة في الخامس عشر من شعبان، فلما وصل إلى غزة انسحبت منها الحامية المغولية، ثم مضى على طريق الساحل حتى التقى بجيش المغول (بقيادة كَتبُغا) قرب العين، وهي بين نابلس وبيسان.

* * *

بدأ القتال مع شروق يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وقد امتلأ الوادي بالمقاتلين من الجيشين، واندفع المغول في هجوم شرس على ميمنة جيش المماليك، فاضطرب عسكر المسلمين وبدا وكأن الميمنة توشك على السقوط. في تلك اللحظة قذف قطز خوذته على الأرض وأطلق صيحته التي خلدها التاريخ وتناقلتها الأجيال: واإسلاماه! ثم انطلق بمَن معه "منغمساً" في عسكر المغول، فتراجعوا وتبعهم المسلمون إلى بيسان.

ثم نظموا صفوفهم وأعادوا الهجوم، فتزلزل جيش المسلمين من جديد، ومرة أخرى صرخ السلطان: واإسلاماه! ورفع يديه إلى السماء داعياً: اللهم انصر عبدك قطز على التتار. وهجم بمن معه وهجم معه قُوّاده بمن معهم، فتفرق عسكر المغول وبدؤوا بالسقوط صرعى تحت ضربات المسلمين، وقُتل قائدهم كَتبُغا وانسحب بقية جنده "انسحاباً كيفياً" يفرّون من أمام عساكر المماليك، وهؤلاء يتبعونهم قتلاً وأسراً حتى لم يبقَ منهم إلا القليل.

وخَرَّ السلطان على ركبتيه فمرّغ وجهه في التراب ساجداً شكراً لله، وطار الخبر في أرجاء الشام فوثب أهل كل مدينة ومحلة على من عندهم من المغول فقتّلوهم وشردوهم، وكان يوماً من أيام التاريخ.

* * *

تلك هي معركة عين جالوت التي كانت أول هزيمة يصاب بها المغول منذ أن غادروا أرضهم في منغوليا قبل ذلك بأربعين سنة. وبعدها توالت هزائمهم وخرجوا من الشام إلى الأبد، وصارت بلاد الشام كلها جزءاً من دولة المماليك التي استمرت ثلاثة قرون.

لم يتحقق هذا النصر العظيم بأعداد هائلة، فقد تراوحت تقديرات المؤرخين لحجم الجيش المملوكي بما بين عشرة آلاف مقاتل وعشرين، أي أنه لم يزد عن فرقتين بالتعبير العسكري المعاصر. نعم، لم يكن العدد ولا السلاح هو العنصر الحاسم، فتلك الموجة الزلزالية التي زلزلت قارّتَي آسيا وأروبا وسقطت أمامها ممالكُ وإمبراطوريات تكسّرَت أخيراً أمام جيش صغير حمل قادته ومقاتلوه في قلوبهم سرَّ الانتصار: العزيمة والإيمان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين