الإخلاص لله تعالى في السر والعلن

يقول الله تعالى:[إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2) أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ...(3) ]. {الزُّمر}..

هذه الآية الكريمة تبين الطريق المستقيم الذي ينبغي أن يسير عليه المسلم، والطريق المستقيم الذي ترشد إليه الآية، والذي لابدَّ منه هو: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، الإخلاص في كل عمل من أعمال الخير، ولن يتقبل الله تعالى من أعمال الخير إلا ما كان لوجهه سبحانه.

وإذا ما وقف الإنسان أمام الله تعالى في الصلاة، أو أدَّى نوعاً آخر من العبادة، فإنَّ طابعه العام وشعوره الذاتي يجب أن يكون:

[إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] {الأنعام:79}.

ولقد أحبَّ الله سبحانه من كل منا أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منارة يُتمثل فيها – كاملاً – الشعار الإسلامي الخاص بصلة الإنسان بربه وهو:[قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] [لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] {الأنعام: 162-163}.

ومن أجمل ما يذكر في معنى الحديث الذي نشرحه (إنما الأعمال بالنيات) ما يقوله الإمام أبو سعيد الخراز في بعض شروحه للإخلاص يقول:

فمن شرح ذلك، أن يكون العبد يرد الله عزَّ وجل، بجميع أعماله وأفعاله، وحركاته كلها ظاهرها وباطنها، لا يريد بها إلا الله وحده، قائماً بعقله وعلمه على نفسه وقلبه راعياً لهمه قاصداً إلى الله تعالى بجميع أمره، لا يحب مدح أحد ولا ثناءه، ولا يفرح بعلمه – إذا اطلع عليه المخلوقون – فإن عارضه من ذلك شيء اتقاه بالسرعة والكراهية، ولم يسكن إليه، لكن إذا أثنى عليه أحد، حمد الله تعالى على ستره عليه القبيح من أمثاله وعلى توفيقه له، حين وفَّقه لخير رآه العباد عليه.

نعم ثم يخاف ذلك، من عمله الرديء، وسريرته القبيحة، التي خفيت على الناس ولم تخف على الله تعالى فأشفق من ذلك، وخاف أن تكون سريرته أقبح من علانيته.

فهكذا يروى في الحديث الشريف: (السريرة إذا كانت أقبح من العلانية فذلك الجور، فإذا استوت السريرة والعلانية فذلك العدل، وإذا فضلت السريرة على العلانية فذلك الفضل) (1).

وبعد فصلوات الله وسلامه على من قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (2).

وأما بعد وعن أنس بن مالك، فيما رواه ابن ماجه والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، واقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض).

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال – حين بعث إلى اليمن – يا رسول الله أوصني، قال صلى الله عليه وسلم: (أخلص دينك يكفك العمل القليل) (3).

وما من شك في أن هذا الحديث الشريف من الخلق السامي، بل أنَّ الخلق لا يتأتى له السمو إلا إذا قام على الإخلاص، بل إنه لا يكون فاضلاً إلا إذا بُني على الإخلاص.

والعمل إذا خلا من الإخلاص كان في نظر الإسلام شركاً.

والشرك درجات؛ فالشرك في التوحيد كفر، وشرك الرياء معصية تختلف في درجاتها، وإذا كانت العبادة تستلزم الإخلاص، متمثلاً في [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] وإذا كانت الأعمال تستلزم صفاء النية حتى تكون مقبولة: (إنما الأعمال بالنيات)

فإن الاستعانة: [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] يجب أن تقتصر على الله تعالى وأن من أجمل ما يشرح ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس وهو إذ ذاك غلام: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (4)

والسجود لله تعالى من معاني: أن يسلم لله قلبك، وحينما نكون في دائرة إسلام القلب لله تعالى فنحن في دائرة التوحيد.

والتوحيد هو الغاية التي يسعى إليها كل مستبصر في الدين، إن التوحيد هو الهدف الذي توجه إليه كل التعاليم الإسلامية لأنه: 

1 – هو الوضع الحقيقي بالنسبة لله تعالى فهو سبحانه الخالق الرازق الوهاب التواب الغفور الرحيم... إنه الواحد الأحد في اليسير من أمر العالم والعظيم منه، إنه الواحد الأحد بإطلاق.

2 - وهو الوضع المناسب لجلال الله وعظمته، وإن جلال الله وعظمته ليتنافسان جذرياً مع الاشرك بالابن أو بالشريك، في أي وضع كان أو بروح القدس أو بغيرهم، وعن الابن يقول الله تعالى مفتتحاً سورة الكهف: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا(1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا(3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا(4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا(5) ]. {الكهف}. 

3 – والتوحيد هو: الذي يرقى بمستوى الإنسان فلا تكون عبوديته إلا لله سبحانه وحده، وإذا ما تحرر الإنسان من عبوديته للإنسان فإنه يستكمل حريته الحقيقية.

4 – وهو حينما يتحقق بالتوحيد فإن من أولى ثمرات ذلك أن تهدأ نفسه وتطمئن لأن إيمانه أصبح كاملاً بأن أموره بيد الله تعالى وحده، وهو سبحانه حكيم رحيم ودود عليم كريم وكل ما يأتي من قبل الله تعالى إذن هو عين الحكمة:[ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ] {البقرة:216}.

5 – ومن آثار التوحيد: التوكل، والتوكل هو اتخاذ الأسباب كما أمر الله تعالى وكما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته من الكفاح والنضاح واتخاذ الأسباب دقيقها وجليلها، يسيرها وعظيمها... ومع اتخاذ الأسباب، الإيمان اليقيني بأن الأمور بيد الله تعالى: إليه عاقبة الأمور، إليه المصير، ألا له الخلق والأمر، والله غالب على أمره.

فإذا ما توكل الإنسان فإن الله تعالى يكفيه كل ما أهمه: [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] {الطَّلاق:3}.

والتوكل الصادق: هو ثمرة التوحيد الخالص وإذا كان الإسلام يعرف بأنه: (أن يسلم لله قلبك) فإنه يعرف أيضاً بأنه: (الاسترسال مع الله على ما يحب).

إنه الاسترسال مع الله على ما يحب في الأمر والاسترسال مع الله على ما يحب في النهي، إنه الاسترسال مع الله تعالى على ما يحب في الأفعال وفي الأقوال، وفي الخواطر، وفي الحركات بل وفي السكون.

والمتدينون في الماضي والحاضر، في الشرق وفي الغرب، في الجنوب وفي الشمال: المتدينون في كل مكان وفي كل زمان يؤمنون بأن الله تعالى الكمال المطلق.

والكمال يتنافى كلية مع اتخاذ الولد: لأن اتخاذ الولد يدل على الاحتياج، والاحتياج نقص والله تعالى هو الكمال كله.

وعقيدة الكمال لله تعالى: تحفز الإنسان إلى السعي نحو تحقيق الكمال المتاح للجنس الإنساني، وكلما اتجه الإنسان لتحقيق الكمال المتاح للجنس الإنساني – وهو خير لأنه كمال – كان الله تعالى معه بالتوفيق والرعاية.

وكلما اتجه الإنسان للقرب من الله تعالى عن طريق سلوك طريق الكمال حقق الله تعالى له ما أعلنه سبحانه بقوله:(من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) (5)

ووسيلة القرب من الله تعالى هي السجود، ولأن السجود هو منتهى التواضع لله والخضوع له سبحانه كان هو منتهى القرب والرفعة، يقول تعالى:[ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] {العلق:19}.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) (6)

ولكن السجود له طريق يوصل إليه وبدونه لا يتأتى السجود إلا لمن يجذبهم الله تعالى إليه بدون مقدمات ظاهرة: إنهم أهل الأجنباء 

أما أهل الإنابة فقد رسم الله تعالى طريقهم إلى السجود بقوله:[التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ] {التوبة:112}.

يبدأ الطريق إذن بالتوبة الصادقة.

هذا وبالله التوفيق

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة الجديد 1 أبريل 1978 - العدد 150 

------

(1) الغزالي إحياء علوم الدين، 4/146-147

(2) رواه أحمد

(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن مرة ومن كتاب الجامع الصغير.

(4) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح

(5) رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه 

(6) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين