الفتح أم الانتصار للمظلوم؟

تتنازع المسلمَ هواجسُ مختلفة حين يسمع أنّنا فتحنا بلاد الدنيا وقاتلنا حتّى قُتِلنا وكان الموتُ في سبيل الله أحبّ إلينا من الحياة! وقد يخلط ذلك بشعارات الذين يحتكرون مفهوم الجهاد ومصطلحه في زماننا! فيظنُّ للوهلة الأولى أنّ تاريخنا أقرب إلى عقليّة الدعشنة من عقليّة الرحمة للعالمين!

ولقد خُدِعَ كثيرٌ من شبابنا بذلك الفكر المجتزَأ المسيّسِ؛ فظنّوه الفكر الذي يمثّل صفاء الإسلام واندفاعَهُ نحو تحقيق الخير للبشريّة؛ وحسبوه المنهج الذي يتعلّق بخالق الأسباب فيتّصل به اتّصالاً يمنع من خذلانه وإن ترك الأخذ بالأسباب التي وضعها الله وربط بها مسبّباتها! فتحدّوا لذلك - بالكلام - سننَ الله وأممَ الأرض دفعةً واحدة، وحسبوا أنّ بإمكانهم رفعَ رايات التوحيد فوق أبراج أوربّة وتماثيل أمريكا!

وفي صفحات التاريخ المُشرِقةِ ما يصرخ بوضوحٍ تامٍّ أنّ معاركنا لم تكن يومًا إلاّ مع الظالمين من الحكّام للأخذ على يدهم... فلم نسمع قطّ أنّ المسلمين فتحوا بلادًا فيها ملك لا يُظلم عنده أحد! وفي حين وصلتنا آلاف الصفحات عن فتح فارس والروم لم نقرأ شيئًا عن فتح الحبشة!

في صفحات التاريخ ما يُشيرُ إلى أنّ مفهوم محبّة الموت في سبيلِ الله ليس رغبةً في الانتحار ولا يأسًا من الدنيا ولا رغبةً في التخلّص من تبعات الحياة، بل هو اندفاعٌ في محبّة الإسلام، حيثُ المحبّة للدين تقتضي أن يُضحّي الإنسان بنفسِهِ من أجل أن يبقى الدين وينتشر، وأن يُقدّم نفسَهُ رخيصةً ليصلَ الخيرُ في أبهى صورِهِ إلى العالمين غير مدنّسٍ برغباتِ النفس ولا شهواتها وغير مضطربٍ في المفاهيم ولا في الرؤى بل هو دينٌ كلّه لله، لا مطمع دنيويَّ في نشره لأحدٍ من حاكمٍ أو محكومٍ! وحين يكون هدفُ الفتح أن يكون الدين كلّه لله فحتما لن تتدخّل الحاجات الشخصيّة في تفاصيل هذا الدين.

ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ كتبَ التاريخ لم تنقل إلاّ ما تهتمّ به النخب السياسيّة والعسكريّة، وما يبعث على الافتخار العسكريّ أو تعزيز الاتّصال بالله تعالى، ولم نقرأ في كتب التاريخ إلاّ نادرًا وقائعَ ما قبلَ الفتح، أو تاريخَ البلاد المفتوحة قبل فتحها، وكيف كان حكّامها يعاملون أهلَها ويسومونهم سوء العذاب، وكيف طلب أهلها أو نُخَبُهم من المسلمين أن يأتوا ليحموهم من ظلم حكّامهم، وكيف سلّموهم مفاتيح مدنهم واشترطوا عليهم ألاّ يحكمها الحاكمون السابقون، وألا يُساكنهم فيها اليهود!

لم تُركّز مناهجنا التعليميّة على آثارنا الحضاريّة في الأرض، ولم تُعطِ أيّ فكرةٍ عن التواصل الذي وقع بين الشعوب التي فُتِحت وبين الفاتحين، ولم تتكلّم عن الآثار الباقية من قبلِ الفاتحينَ، ولا عن الآثار الحضاريّة والثقافيّة والاقتصاديّة والتنمويّة والبُنَى التحتيّةِ التي أقامها الفاتحونَ، فيما تركّزت أحاديث المناهجِ في أحسن أحوالها حولَ دخول الناس في دين الفاتحين بلا إجبارٍ ولا إكراه.

لم تتعرّض مناهجنا لتاريخ الفتوحات الإسلاميّة ووقائعها التفصيليّة إلا من الجانب العسكريّ؛ فظهرت الصورة مبتورة موتورة!

وللإنصاف فقد عاشت شعوب الأرض فترات ظلم عظيم جدًّا، تنازعت البشريّة فيها قوى عظمى سيطرت على الناس بذريعة تطبيق ما يريده (الإله!)، وأكلت حقوق الناس تحت شعار الدين، ومنعت الناس من التفكير باسم الكنيسة! وحَرَمَتْهُم من الحريّاتِ مرورًا بأوهامِ الانتصاراتِ!

في عصور الظلام الوسطى حين كان الإسلام يُقدّم نموذجًا فريدًا في الحكم الرشيد، وفي الحكم القائم على الحريّات الجزئيّة والمحكوم بقواعد كليّة تحافظ على أعراض الناس ودينهم وأنفسهم وأموالهم كانت البشريّة تحلُمُ أن يأتي من يخلّصها من جَورِ الحكّام، ولم يكن ثمّة من يهتمّ لدين المخلّص! إذا كان سيحقّق قدرًا من كرامة الحريّة ويعيد للبشريّة شرفَ إنسانيّتها.

إنّ وجود الآثار من التاريخ الحضاريّ لأمم الأرض التي فتحها المسلمون لتشي بأنّ الفاتح لم يكن همجيًّا، ولم يكن يسعى لفرض السيطرة، بل كان يهتمّ بتحقيق المبادئ قبل فرض دين، كان الفاتح المسلم يرغبُ في تحقيق الحريّة والكرامة الإنسانيّة، ويريد للناس أن يُطبّقوا ما يختارونه، وأن يبحثوا ويتعلّموا، وأن ينطلقوا في بناء حياتهم وإعمار الأرض، فلم يكن الفاتح يركّز على انتماء الناس إلى دينِهِ بقدر ما يهتمّ بما سيُقدّمه لهم.

ومن خلال قراءةٍ سريعةٍ للواقع الذي تعيشُهُ الحركاتُ التي تحتكر مسمّى الجهاد اليوم نرى بوضوحٍ ضياع البوصلة التي ينبغي أن تكون موجِّهةً لكلِّ حركة جهاديّة في الإسلام! ونشهد عظم التيه الذي تعيش فيه تلك الحركات حين تستجرّ رفع الراياتِ من تاريخٍ كان يعني رفع الراية فيه الكثير إلى واقعٍ لا يعني فيه رفع الراية شيئًا... فيُعلنون استعداء العالم في وهمٍ مرسومٍ ليجعلوا من شعاراتهم رفع راياتهم فوق أبراج باريس أو تمثال الحريّة! 

إنّ البعد عن قراءة تاريخ الجهاد النبويّ ثمّ الراشديّ ثمّ الإسلاميّ عمومًا، والنأي عن أحكام الشريعة القطعيّة، لَيَجعلُ الجهاد مجرّد وهمٍ في نفوس الممثّلين له في الواقع، الممثّلين بالبعد الفنّــــيّ المسرحيّ للكلمة والممثلين الزاعمين أنّهم يحملون رايتَهُ ويعيدون مجده! فأين هم من جملة الآيات والأحاديث التي تمنع من الاعتداء على الناس، بل تأمر ببرّ غيرِ المحاربينَ من أبناء الديانات الأخرى، وأين هم من الآيات والأحاديث التي تأمر برفع الظلم عن المظلومين، والأخذ على يد الظالم، وإن كان أخاك!

يوم كنّا سادة العالم لم نسُدْهُ بالقوّة وحدها، ولا استعملنا السلاح للسيادة، بل سُدناه بالمبادئ التي جعلت الشعوب تهفو إلى حكم الإسلام الذي يزيل عنها ظلم الظالمين، فاستعملنا السلاح لإزالة الظلم عن المظلوم، ولردع الظالم عن ظلمه، وللأخذ على يده، ولنشر النور الذي بين أيدينا، دون إكراهٍ لأحدٍ على الدخول فيه... ولن نكون سادة العالم من جديد إلاّ إذا أعدنا استعمال مبادئنا لسيادته، ليحلّ التوافق والعدل مكان تجارة السلاح وسباقاته! وليكون الآخر هو من يُطالبنا أن نأتي لنرفع عنه الظلم ونعيد إليه الأمن والسلام.

ونحن نرى في واقعنا اليوم أنّ الأمم المسيطرة على العالم تبذل كلّ جهد ممكن لإنهاء وجود خصومها، والسيطرة على تفكيرهم، وزعزعة استقرارهم! وهذا ما يجعل همَّها الأكبر الاستخفافَ بالآخر لا الحرص عليه، ومحاولة استغلاله لا النهوض به! ولذلك فإنّها تظلم وتبرّر ظلمها بقضائها على إرهابٍ صنعته بأيديها.

إنّ وجود الإسلام هو وجود رحمة للأمم كلّها، والارتباط الوثيق بين تقدّمِهِ في حكمِ العالم وانبهار العالم بإنجازات القيادات الإسلاميّة المتعاقبة وبين زيادة إنتاجه الفقهيّ وموائمته للتقدّم العلميّ في العالم؛ مظهرٌ حتميّ للنهوض بالعالم وتحقيق التوازن في أمم الأرض بتغيير النظام الذي يحكم العالم إلى نظام فيه شيء من العدل، إن لم نقل إنّه يمثّل العدل كلّه.

فالنظام الإسلاميّ الذي ينبغي أن يكون سبب كلّ تقدّم في العالم اليوم كما كان سببه فيما سبق تمّ إقصاؤه عن موقع القيادة في العالم، وتمّ استثناؤه بسبب ضعف ممثّليه أحيانًا ولفقدهم المشروع أحيانًا أخرى، ولعدم قوّتهم الكافية لصنع توازنات في خريطة العالم السياسيّة في أحيان ثالثة! ولن يعود الاستقرار النسبيّ إلى العالم إلا إذا استطعنا إيجاد كيان جامع لهذه الأمّة، وأن يكون هذا الكيان معبّرًا عن جوهر التدافع مع العالم الغربيّ، وأن يكون معبّرًا عن تطلّعات الأمّة وآلامها وآمالها.

والحقيقة التي يجب أن ندركها أنه لن تستطيع أمّة مشتّتة متفرقّة أن تنهض أو تتقدم في عصر الكيانات السياسيّة الموحّدة، فضلًا عن أن تقدر بعضُ أجنحةِ الأمّة على أن تقدّم للعالم نموذجًا أو مشروعًا يحتذى... إذ إمكانات المتفرّقين ليست مساوية لإمكانهم حين يتجمّعون! وتضاعف القدرات ملموس عند اجتماع الإمكانات، فلا نتوقّع من شخصٍ منعزلٍ عن بيئته أو مجتمعه أن يُنتج إنتاجًا فكريًّا أو حضاريًّا يُبهِر به العالم!

وحين يدعو اليوم بعض الذين يدّعون تبنّي فكر الجهاد واحتكارِهِ إلى الانتصار على دول العالم كلّه من خلال محاربتها دون امتلاك الأدواتِ، فهذا يُقدّم للعالم نموذجًا سيّئًا للفتوحات الإسلاميّة، لكنّ ما هو أسوأ منه أن نرسّخ أفكارًا بثها العالم الغربيّ في شبابنا بأيدينا حول همجيّة المحاربين وسيطرتهم بالقوّة وانتقامهم من أهل البلاد التي يدخلونها، وهو ما يفعله العالم الغربيّ حين يدخل بلدًا، لكنّ هذه الصورة لم تكن موجودةً عند أجدادنا الفاتحين وزرعها بعض أدعياء الجهاد في شبابنا، وهذه جريمةٌ تُضافُ إلى جرائم هؤلاء.

المصدر: العدد الثاني من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين