من ذكريات الأمس المجيد: إضراب دمشق

روى الأخ الصديق أحمد فؤاد شميس قصة سمعها من أبيه رحمه الله، قال: عندما قرر تجار دمشق إعلان الإضراب العام ضد فرنسا عام 1936 (الذي استمر ستين يوماً وسُمّي في التاريخ "الإضراب الستيني") خاف بعض التجار أن تُنهَب محلاتهم، فعلم بذلك شخصٌ اسمه "أبو أحمد الزيبق"، وهو شاب مفتول العضلات مسؤول عن اللصوص! فأخذته الحميّة، واستأذن من خطيب الجامع الأموي وقتها ليتكلم بعد خطبة الجمعة، فأذن له، فوقف وقال: يا أهل الشام، أنا فلان الفلاني، أتعهّد لكم بشرفي وبشواربي أني سأحرس لكم وجماعتي محلاتكم من أي سرقة، فأضربوا ولا تخافوا. وفعلاً نُفِّذَ الإضراب ونَفّذَ هو وعده، فلم يغادر الأسواق حارساً لها حتى انتهى الاضراب.

ذكّرتني هذه القصة بمقالة كتبها جدي علي الطنطاوي في تلك الأيام، وكان وقتَها رئيس اللجنة العليا لطلاب سوريا التابعة للكتلة الوطنية، وهي التي تنظم الإضرابات وتشرف عليها. قال في مقالة "حوادث دمشق" التي نشرها سنة 1936 (قلت: وهي منشورة في كتابه "هتاف المجد"):

أحلفُ لو أن ما جرى في دمشق في هذه الأيام جرى في فرنسا أو ألمانيا أو إنكلترا لكُتبت فيه عشرات الكتب والروايات ومئات القصائد والمقالات، ولخُلّدت حوادثه وصارت حديثاً يَسري في الأجيال الآتية فيبثّ فيها العزّة والكرامة وينفخ فيها روح البطولة والتضحية.

هذي دمشق لبثت خمسين يوماً مُضربة، مغلقة حوانيتها مقفرة أسواقها، كأنها موسكو حين دخلها نابليون، فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب الفقير على الخبز وطوى ليله جائعاً من لم يجد الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بالشكوى ولم يفكّر رجل أو امرأة أو طفل بالتذمّر والضجر، بل كانوا جميعاً، من العالِم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير ومن الرجل إلى المرأة ومن الشيوخ إلى الأطفال، كانوا جميعاً راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية اعتزازاً وفخراً.

ولم يُسمَع أن دُكّاناً من هذه الدكاكين قد مُسّت أو تعدّى عليها أحد، ولم يُسمَع أن لصاً قد مدّ يده إلى مال، حتى اللصوص شملهم الإضراب فانقطعوا عن صناعتهم، برغم أن أغنى الأسواق وأعظمها في دمشق بقيَت أياماً وليالي مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير! فهل قرأ أحد أو علم أحد، أن بلداً في أوربّا أو أميركا أو المرّيخ، يسير فيه اللصوص جياعاً ولا يمدّون أيديهم إلى المال المعروض حُرْمةً للواجب الوطني ومراقبة لله واحتساباً لثوابه؟

وأطفال دمشق، مَن رأى كالأطفال؟ من فَعَل فِعْل الأطفال؟ من ذا الذي لم يسمع بأعمال الأطفال ويرَ مظاهرات الأطفال؟ لقد رأينا طفلاً يسيل الدم من رأسه، رأيتُه أنا وقد وضع يسراه على رأسه يمنع بها الدم وأخذ الحجر بيمينه يضرب به جند المستعمرين، وعمره أقلّ من عشر سنين! لقد حدّثني أحد الأصدقاء أنه كان ماراً في سوق مدحت باشا، وهو من الأسواق التجارية الكبيرة في دمشق، فسأل الأطفال وكانوا مرابطين فيه يحرسونه: هل تسمحون لي يا أولادي أن أمرّ؟ قالوا: إذا كنت تستطيع أن تمشي بين العسكر مرفوع الرأس فَمُرْ، وإذا كنت تخفض رأسك وتنحني وتخاف فارجع من حيث جئت!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين