بين الانحياز المُكْلِفِ .. والرخيص

- لا يزال الاختلاف بين البشر قائماً، طالما أن الله تعالى خلقهم مُخيرين مختارين .. ولو كانوا مُسيرين لما اختلفوا .. كما الملائكة الكرام التي طُبعت على الطاعة فلا انحياز لديها للمعصية والهوى .. وكما الشياطين التي طُبعت على المعصية فلا انحياز لديها للطاعة والهدى.

- أما البشر فمنهم من ينحاز إلى الطاعة والخير والحق والهدى .. ومنهم من ينحاز إلى المعصية والشر والباطل والهوى، قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الانسان: 3).

- والناس في حجم انحيازهم مختلفون متفاوتون، فمنهم من يكون رأساً في الخير أو الشر وهم قلة .. ومنهم من يكون ذيلاً أو مرؤوساً وهم كثرة، قال تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ  سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) (ابراهيم: 21).

- للانحياز أسباب عديدة؛ منها ما هو طيب مشروع، ومنها ما هو خبيث محرم، والإنسان مفطور على الانحياز لمن أحسن إليه وأفاده .. فالحر من راعى وداد لحظة، أو انتمى لمن أفاده لفظة، لأجل ذلك ينبغي علينا الانحياز لفئة الأنبياء والصالحين المصلحين، لأنهم تسببوا لأنفسهم بالأذى من أجل أن يتسببوا لنا بالسلامة والهدى، ومن أسباب الانحياز الشائعة كذلك:

1. الانحياز للأهل والعشيرة؛ وهذا انحياز مهم ونافع ومطلوب طالما أنه كان في حق وخير .. لا في عنجهية وعصبية جاهلية، وقد صحح الإسلام هذا الانحياز بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره) رواه البخاري.

2. الانحياز للبلد والوطن؛ وهو انحياز مهم ونافع طالما أنه أدى إلى التنافس في الخير والوصول إلى أسباب البناء، لا إلى التطاول واستشعار الأفضلية على الخلق، باعتبار أنك شرقي أو غربي أو شمالي أو جنوبي، وقد تنافس الأوس مع الخزرج في أيهم كان أكثر خدمة للإسلام، مثلما تنافس المهاجرون والأنصار .. وكلهم كرام كبار، والله تعالى يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).

3. الانحياز للحزب والجماعة؛ فهو إن كان مقصوداً لذاته فهو مذموم، (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا  كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 32)، وإن كان بقصد دعم الحق واسناد الخير ودفع الباطل فهو محمود، قال تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة: 56)، وإن كان انحيازاً للأشرار الفاسدين المفسدين، فهو انحياز قبيح، قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ  أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المجادلة: 19).

4. الانحياز للتاريخ واللغة؛ أما التاريخ فنحترمه لما فيه من تجارب وخبرات وبذلٍ وتضحيات، دون أن نمجد ما فيه من شرور وآفات؛ .. وليس الفتى من قال: كان أبي * إن الفتى من قال: ها أنذا .. أما اللغة فليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى .. وإن كنّا نحترم لغة القرآن ونقدمها على سائر اللغات.

- تشكل غزوة حنين نموذجاً عظيماً من نماذج الانتفاع من الفئات التي ننحاز لها لمصلحة الحق والخير، وذلك حين حميَ الوطيس، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم ينادي من انحاز لهم وانحازوا له قبل ذلك لنصرته: يا معشر الانصار يا معشر المهاجرين .. أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.

- تسبب سؤال عيسى عليه السلام للحواريين بحالة مفاصلة كبرى في المجتمع، ظهر من خلالها حقيقة انحياز الحواريين له في مقابل طائفة من بني اسرائيل انحازت لأهوائها .. وهكذا هي النتيجة عند تصريح وإعلان المصلحين بمواقفهم في كل زمان ومكان .. ثم تأتي كلمة الفصل الربانية بعد تلك المفاصلة البشرية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ  قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ  فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ  فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى? عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف: 14).

- يعتقد الماديون أصحاب النظرات المحدودة بعالم الشهادة، أن الانحياز للقوي الغني صاحب السلطة والجاه والمال هو الانحياز الرابح، مهما كان دين هذا الذي ننحاز إليه ومذهبه ومنطقه وعقيدته .. مثلما يعتقد أصحاب النظرات البعيدة الممتدة إلى عالم الغيب، أن الانحياز لصاحب العلم التقي مهما كان وزنه المادي، هو الانحياز الرابح .. وللفصل بين هذين الرأيين والمسارين المتناقضين لابد من تناول أمور منها:

1. أن الانحياز للأتقياء مكلفٌ باهض الثمن؛ لما يتعرض إليه هؤلاء الكرام من أذىً واستهداف واستنزاف، لاسيما إن كانوا ضعاف العدد والعدة .. وأن الانحياز للأشقياء رخيص سهل لما يناله هؤلاء من بعضهم من حوافز وتسهيلات تشجعهم على البقاء ضمن هذا الحلف المشؤوم، قال تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) (الأعراف: 200) .. وهذا مما جعل المنحازون للباطل يعتقدون فيه الربح.

2. أن التاريخ يشهد، وكتاب الله يؤكد أن العاقبة للمتقين، قال تعالى: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات: 173)، وقال تعالى: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا  وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (غافر: 45) .. هذا في الدنيا .. وأما في الآخرة، فيقول سبحانه: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ  فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران: 107) .. 

فالناظر في عواقب الأمور يكتشف أن الانحياز للحق والخير وإن كان مكلفاً إلا أنه مكفولٌ مضمونُ الربح، وأن الانحياز للباطل والشر رخيص مريح للوهلة الأولى، لكنه شاق ومتعب ومهلك لأصحابه في الدارين.

- شهد التاريخ حالة شاذة من الانحياز المتقلب المتلون بين الخير والشر لفئة مريضة النفوس (أفي قلوبهم مرض)، مترددة الحال (أم ارتابوا)، معدومة اليقين، تشك في وعد الله (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله)، فتراهم ينحازون للقوي وينافقون له ويمجدونه، ويبررون مواقفه، ويهتفون باسمه (تسحيج) ويدافعون عنه (بلطجة) مهما كان مبدأه وعقيدته .. فهم لا ينظرون إلى صلاح أو فساد الآخر عندما ينحازون له، بقدر ما يتطلعون إلى ماله وقوته ومنصبه، ومدى قدرته على جلب المنافع ودفع الأضرار عنهم .. فهم لأجل ذلك يعلنون الانتماء والولاء، ويناصبون من يقابل ذلك العداء.

- تكمن أزمة أصحاب الانحياز المتلون في أنهم يلعبون ألعاباً مكشوفة، لأن أسيادهم يدركون تماماً أن انتماء وانحياز هؤلاء انحياز زائف، فلا يفرحون له كثيراً .. وقد حذّر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم من إبداء السرور أو مجرد الاطمئنان لهؤلاء المنافقين، قال تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ? إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55)، فهم عند ساعة الجد ينسحبون، قال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ .. ) (التوبة: 47)، وقال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا  فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63).

- حتى زعامات الكفر والفجور لا يعتمدون على أولئك المتلونين كثيراً، ويضعونهم تحت اختبارات الولاء بشكل مستمر .. لأن الانحياز الحقيقي لهؤلاء هو انحيازهم لأنفسهم وشهواتهم الرخيصة.

- جميع من انحاز الى الحق والخير دفعوا ضريبة باهضة؛ فليس أولهم أنبياء الله، ولا آخرهم سحرة فرعون، ولا من آمن مع غلام الأخدود .. وكل من انحاز للباطل ندموا ندماً شديداً، فليس أولهم أعداء الأنبياء، ولن يكون آخرهم أشقياء زماننا هذا.

- كلنا نتعرض لاختبارات الاختيار بين الحين والآخر ويكون قرار الانحياز المكلف (الرابح) أو الرخيص (الخاسر) بأيدينا، فتجدنا عند أي اختيار أو استحقاق انتخابي مثلاً ننقسم إلى أقسام هي:

1. منا من ينحاز للأخيار بما ترجح لديه من صلاحهم (النسبي) بناءً على التجربة والسؤال.

2. منا من ينحاز للأشرار نكاية في الأخيار، أو بما ظن من تحقق مصلحته معهم.

3. منا من يتريث حتى يرى الكفة الراجحة لينحاز إليها.

4. منا من يترك الانحياز لأي فريق، بدعوى عدم جدوى الانحياز لأحد مطلقاً.

- والصحيح أننا مأمورون بالوقوف إلى جانب الطيبين في معاركهم المختلفة (معارك سياسية أو فكرية أو عسكرية) وأن لا ننحاز لغيرهم، ولا نخذلهم بالوقوف في الحياد .. لأن (المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يُسلمه .. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) متفق عليه، ولأنه لا حياد إذا عزم الأمر .. ويُفصل بالأمر عند الموازنة بين المصالح والمفاسد .. أو بين المفاسد الصغرى والمفاسد الكبرى، فأيها أعظم مصلحة أن يتقدم الفاجر أم الصالح، وأيهما أشد مفسدة أن يتقدم المقطوع بفساده أم المظنون صلاحه؟!.

- حتى لو أطلقت بعض الدول على نفسها اسم: دول عدم الانحياز؛ فإنك لو تتبعتَ وفتشتَ لوجدتها منحازة للأشرار بحكم الخضوع للأقوى .. وبالتالي فإنه لا يوجد في عالمنا حياد .. وإن كان يوجد انحيازٌ ساخن وآخر بارد.

- لو أن أئمة الفساد والباطل في العالم لم يجدوا من ينحاز إليهم؛ لاعتدلوا أو اعتزلوا .. لكنهم وجدونا إلى جانبهم، فاستقووا بِنَا على تحقيق مآربهم التي آذتنا وآذتهم.

وختاماً: 

لقد دفعت البشرية ولا تزال تدفع ثمن انحيازها العملي والقولي والسكوتي للفاسدين .. وكان هذا الانحياز خوفاً وطمعاً .. فما نقص الانحياز المغشوش من مخاوفنا .. ولا حقق شيئاً من مطامعنا .. فهل آن لنا آن ندرك شرف الانحياز للطيبين؛ بالبحث عنهم، واختيارهم، ثم اختبارهم، واحتمال شيء من نقصهم وضعفهم، وأن نكون مكملين وداعمين لهم .. أو أن نخدع أنفسنا بالانحياز المغشوش حتى نموت .. وعندها سيُحشر المرء مع من انحاز إليه .. بل وسيحاسَب على تفريطه في الانحياز لكل من ينبغي أن ينحاز إليه!!.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين