الصيام مبادئ ومُثل

الصوم في الإسلام

مراتب الصوم

آثار الصوم في تربية الإنسان

هذا شهر رمضان قد أظل المسلمين ووحد بينهم في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وحدَّ بينهم في شعورهم وسرورهم، وحدَّ بينهم في ليلهم ونهارهم، وفي وقت طعامهم وشرابهم جعل فقراءهم وأغنياءهم، وحكامهم ومحكوميهم، ورجالهم ونساؤهم، في ذلك كله سواء.

كأني بهم جميعاً يتبادلون التهنئات بهذا الشهر المبارك، مشرقة وجوههم، باسمة ثغورهم منشرحة صدورهم، طيبة نفوسهم، وكأني بهم يذكرون بهذا الشهر المبارك (عيد القرآن) عيد الكتاب العربي المبين، الذي كان نعمة الله تعالى على المسلمين، بل نعمة الله تعالى على البشر أجمعين:[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ] {البقرة:185}.

كأني بهم جميعاً وقد قاموا بالأمس من نومهم في غير وقت قيامهم، ممسكين عن طعامهم وشرابهم وسائر شهواتهم إيماناً بالله سبحانه، واحتساباً لثوابه، وابتغاء مرضاته، لا فرق بين صعلوكهم وأميرهم، ولا امتياز لغنيهم على فقيرهم، كلهم أمام الله تعالى عباد مستوون.

كأني بهم وقد نشطت نواديهم، وحفلت مجتمعاتهم، وانطلقت ألسنة محاضريهم وخطبائهم يذكرون بالخير، ويحضون على البر، ويأمرون بالمعروف،وينهون عن المنكر ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر...

فمرحباً مرحباً بك أيها الشهر الكريم وهنيئاً لكم أيها الصائمون المؤمنون المحتسبون.

عبادة قديمة:

إن الصوم عبادة قديمة جاءت بها الأديان السابقة فكانت ركناً هاماً من أركان كل دين (فأنا جيل) النصارى تذكر الصوم وتمدحه وتعتبره عبادة كبرى، وقد صام عيسى عليه السلام والحواريون رضي الله عنهم، والتوراة تفرض الصوم بعض الأيام ومنها فيما يروى يوم عاشوراء وقد صام موسى عليه السلام أربعين يوماً، بل إن الوثنيين يعرفون الصوم، فقد كان المصريون في أيام وثنيتهم يصومون، وانتقل منهم الصوم إلى اليونان والرومان، ولا يزال الوثنيون في الهند يصومون إلى الآن، ويكاد الصوم يكون أمراً فطرياً يلجأ إليه كل كائن حي فترة أو فترات من الزمان حتى إننا نجد بعض الحيوانات كالجمال مثلاً تصوم، فالصوم إذن فطرة مألوفة وعبادة معروفة، ولذلك يحاطب الله تعالى المؤمنين في آخر تشريع إلهي بقوله:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}.

الصوم في الإسلام:

والصوم في الإسلام هو الإمساك عن الطعام والشراب والمعاني الجنسية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس إيماناً واحتساباً لله تعالى.

وقد حدَّد طلوع الفجر مبدأ للصوم على خلاف ما كانوا يفعلون، فإنهم كانوا يأكلون ويتمتعون من الغروب إلى وقت النوم، فإذا نام أحدهم فقد بدأ صيامه فليس له أن يذوق بعد ذلك طول ليله طعاماً أو شراباً ولا أن يتمتع بالنساء ولو استيقظ قبل الفجر بوقت فسيح، وعلم الله أن ذلك تشديد تأباه رحمته سبحانه ولا يتفق مع شريعته السمحة، وأنهم بذلك ينتقصون حقوق أنفسهم في التمتع بالليل كله، فقضت حكمته سبحانه أن يتوب عليهم ويعفو عنهم فيما ضيقوا به على أنفسهم وأن يبين لهم مبدأ الصوم ونهايته فقال تعالى:[أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ...] {البقرة:187}.

وكان هذا نوعاً من التعديل الذي أدخله الإسلام على الصوم، وجرى فيه على سنة التخفيف ودفع الحرج عن الناس:[ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] {الحج:65}.

اليسر في الصوم الإسلامي:

نعم جرى الإسلام في تشريعه للصوم على سنته في تكليف الناس بما لا يعنتهم، [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] {الحج:78}، [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185}، [مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ] {النساء:147}، فجعل المسلمين أمام الصوم أقساماً ثلاثة:

القسم الأول: المقيمون الأصحاء القادرون على الصوم بلا ضرر يلحقهم ولا مشقَّة ترهقهم، وهؤلاء يجب عليهم أن يصوموا شهر رمضان كله، ومن انتهك منهم حرمة هذا الشهر بافطاره،وجرح شعور المسلمين في مظهر وحدتهم الدينية وكدر صفاء روحانيتهم فقد استوجب غضب الله وباء بسخطه ووجب على ولي الأمر تأديبه بما يزجره عن المعاودة ويردع غيره عن المجاراة.

وإذا أحس هذا المسيء الخارج على وحدة المسلمين بذنبه، وأراد أن يتطهر منه وأن يستمطر عفو الله تعالى عنه، فليتب إلى الله توبة نصوحاً، وليؤد ما وجب عليه من القضاء والكفارة.

وكم يؤسفني ويؤسف كل مسلم غيور أن نرى كثيراً من الأجانب ينزلون على حكم الآداب العامة الاجتماعية فلا يتناولون طعاماً ولا شراباً ولا يدخنون أمام الصائمين من المسلمين رعاية لشعورهم، وكراهة لإزعاجهم على حين نرى المسلمين أنفسهم يجاهرون بالإفطار على ملأ من إخوانهم الصائمين، فلا يستخفون من الله ولا يستخفون من الناس.

المريض والمسافر:

القسم الثاني: هم المرضى والمسافرون وهؤلاء يباح لهم الإفطار، وعليهم قضاء ما أفطروا في أيام أخر قال تعالى:[ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] {البقرة:184}.

قضت الشريعة بذلك لأن شأن المرضى والسفر التعريض للمشقة، فإذا ما تعرض المسافر أو المريض للضرر ولو بالظن القوي، وجب عليه الإفطار، وكان الصوم حينئذ اعراضاً عن رخصة الله تعالى وإلقاء بالنفس إلى التهلكة باسم الدين والطاعة، وما ذلك إلا التنطع والعصيان.

وقد أطلق الله تعالى المرض الذي أباح به الفطر فلم يقيده بالشديد، وبما يخاف تماديه أو زيادته بالصوم، فكل حالة تستحق عرفاً أن تسمى (مرضاً) فهي مبررة للفطر، أما مالا يسمى مرضاً في العرف كالصداع الخفيف الطارئ، واحمرار العين، والبثرات الجلدية الخفيفة، ونحو ذلك، فليس من هذا السبيل.

قال طريف بن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال: إني وجعت اصبعي هذه...

وقال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة، وذلك في شهر رمضان فعادني إسحاق بن راهوية في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ قلت: نعم: فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة، فقلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن عبد الله بن جريج قال: قلت لعطاء: من أين المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان كما قال الله تعالى:[ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا] {البقرة:184}، قال البخاري رحمه الله تعالى: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق، أي أن إسحاق كان يرى هذا فهماً من الآية، وقد تأيد بالحديث فهي رخصة عظيمة لا يأباها إلا من يضع نفسه موضع المشرع الحكيم.

وكما أطلق الله سبحانه في المرض أطلق في السفر، فلم يقيِّده لا في مداه ولا في وقته: فكل حالة تستحق عرفاً أن يطلق عليها لفظ السفر فهي مبيحة للفطر، وسواء في ذلك ما طرأ من السفر بعد الصوم وما كان قبله.

روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان والناس مختلفون فصائم ومفطر فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته، ثم نظر الناس، زاد في رواية ثم دعا بماء فشرب نهاراً ليراه الناس.

وعن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟، فقال سنة، ثم ركب (رواه الترمذي).

وعن عبيد بن جبر قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان فدفع، ثم قرب غداءه، ثم قال: اقترب، فقلت: الست بين البيوت؟ فقال أبو بصرة: أرغبت عن سنة رسو ل الله صلى الله عليه وسلم ؟ رواه أحمد وأبو داود.

وهذا من تمام نعمة الله تعالى عباده وسيره بهم في طريق اليسر والسهولة، فلا ينبغي لمؤمن أن يضيق صدره بصدقة الله تعالى عليه، ولا يجوز له أن يتزمت فيجنب رخص الله فإن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه، ويحب أن تُرى آثار نعمته على عباده [إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ] {الطُّور:28}.

الشيخ الكبير ومن يماثله:

القسم الثالث: من يشق عليهم الصوم ويجهدهم جهداً شديداً لسبب من الأسباب التي لا يرجى زوالها: كالشيخوخة، والمرض المزمن، ونحو ذلك.

وهؤلاء أباح لهم البر الرحيم أن يفطروا، وكلفوا بالإطعام بدلاً من الصوم، قال تعالى:[ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] {البقرة:184} يطيقونه: أي يتحملونه بعسر ومشقة وجهد، يقال فلان يطيق حمل الصخرة العظيمة، ولا يقال: يطيق حمل البيضة أو النواة مثلاً... فمعنى الآية: أن من كان يطيق الصوم ويتحمله بجهد ومشقة فوق ما يعتاد من التكاليف فعليه فدية هي: اطعام مسكين عن اليوم الواحد.

وفي حكم ما ذكرنا من الشيخوخة والمرض ما يزاوله بعض العمال والصناع من أعمال تكاد تكون مستمرة طوال العام، ويشق عليهم الصوم معها مشقة عظيمة، فإذا تعينت هذه الأعمال سبيلاً لعيشهم بأن لم يجدوا سواها، أو لم يحسنوا غيرها، فلهم أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً ومن هؤلاء عمال المناجم، والغواصون الذين يستخرجون الأشياء من البحار وأمثالهم.

مراتب الصوم:

هذا وللصوم في الإسلام مراتب ثلاث: 

المرتبة الأولى: هي الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة خاصَّة فحسب، فهذا هو الصوم الظاهر الذي يكتفي أكثر الناس به، ويظنون أنهم أدوا به الواجب وخرجوا به من العهدة.

الصوم الذي يريده الله تعالى:

المرتبة الثانية: وهي المرتبة الأولى مضموماً إليها صوم الجوارح عن ارتكاب الآثام، فصوم اليد إمساكها عن الايذاء وتناول المحرمات وصوم الرجل إمساكها عن السعي إلى الفساد والمشي إلى ما يغضب الله تعالى، وصوم اللسان إمساكه عن قول المنكر، وعن اللغو والكذب والهذيان والغيبة والنميمة والفحش والمراء وزور الكلام، وصوم الأذن إمساكها عن الاصغاء إلى الإفك واستماع الأكاذيب والانصات إلى قول المشائين بالنميمة، وصوم العين إمساكها عن النظر إلى الحرمات والتطلع إلى الأسرار، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الصوم جُنَّة فإذا كان أحدكم صائماً، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم).

وقد صامت امرأتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنانه في الإفطار فارسل إليهما قدحاً وقال صلى الله عليه وسلم قل لهما: قيئا فيه ما أكلتما، فقاءت احداهما نصفه دماً عبيطاً ولحماً غريضاً، وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه فعجب الناس من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: هاتان صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما: قعدت احداهما إلى الأخرى فجعلتا تغتابان الناس، فهذا ما أكلتاه من لحوهم).

أما المرتبة الثالثة: فهي مع كل ما تقدم صوم القلوب وتطهيرها عن كل مالا يناسب الإيمان ولا يلائم الإخلاص، فالتفكير في الخطايا وتدبير الفتن إفطار ، والتوجه إلى غير الله تعلى بالقصد والرجاء إفطار، والحسد إفطار، والحقد إفطار، وترك المعروف يُهجَر إفطار، والسكوت عن المنكر يُرتكب إفطار، والتهاون في إقامة الحدود ورد الظالم إفطار، والتلاعب بالمصالح العامة إفطار، وهكذا...

تلكم أيها المسلمون هي مراتب الصوم وإن كان الفقهاء قد تمسكوا بظواهر النصوص فقالوا بصحة الصوم بمجرد الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة وهي المرتبة الأولى، فذلك لأنهم يشرحون صوم المؤمنين، ومن قضية الإيمان قبل الصوم، كفُّ الجوارح عن الآثام، وتطهير القلوب عن التفكير فيما لا يناسب الإيمان، وليس من قضية الإمساك عن الطعام والشراب والمعنى الجنسي وقد أفصح، رأي العلماء الذين عرفوا روح الشريعة، وأدركوا أسرار الدين أن هذه المرتبة من الصوم لا تعتبر ولا تعد شيئاً مذكوراً وأن الصوم الذي أمر الله به وكلف به عباده لا يتم إلا إذا صامت مع البطن والجوارح والقلوب، وقد روى جابر عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس يفطرن الصائم: الكذب والغيبة، والنميمة، واليمين الكاذبة، والنظر بشهوة) وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش).

آثار الصوم في تربية الإنسان:

الصبر:

تعويد الصبر، والصبر هو خلق الأخلاق وروح الفضائل الإنسانية، لقد اهتم به القرآن الكريم وأوصى به وحثَّ عليه في كثير من آياته وصوره وقد ورد أن الصبر نصف الإيمان، وأن الصوم نصف الصبر، والله سبحانه وتعالى يعطي لكل حسنة جزاءها ويضاعف لمن يشاء حتى إذا تحدث عن جزاء الصابرين قال: [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10}.

فالصوم تعويد على الصبر وتمرين عليه يدع الصائم طعامه وشرابه وكل ما تشتهيه نفسه، ويرى بعينيه أطايب ما ترك فيكبح جماح نفسه امتثالاً لأمر الله تعالى، يصبر الصائم المحتسب إذا أوذي أو شتم فلا يغضب ولا يقابل الإساءة بمثلها ولا تضطرب نفسه كأنه يقول لمن أساء إليه: (افعل ما شئت فقد عاهدت الله بصومي على أن أحفظ لساني وجوارحي فكيف أخيس بالعهد فأجيبك أو أسيء إليك كما أسأت إلي؟ لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، الصائم المحتسب يعلم أن الصوم أمانة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته ) وأن عليه أن يصبر على هذه الأمانة ويحفظها:[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] {النساء:58}.

الصائم المحتسب لا يجد في نفسه اضطراباً ولا انزعاجاً بل يكون راضياً مطمئناً هادئاً قد يصيبه فتور في جسمه ولكن رحمه الله تعالى تظل قوية متيقظة، الصائم المحتسب لا يغضب في رمضان مما كان يغضب منه في غيره، ولا يمل مما كان يمل منه وهو مفطر، لأن صيامه لله تعالى، وصبره بالله، وجزاءه على الله سبحانه.

أما هؤلاء الذين يغضبون في رمضان ويثورون لأتفه الأسباب، ولا يتسلحون بالصبر، فهم الذين ظنوا أن الصيام عقوبة وحرمان فثارت لذلك نفوسهم واضطربت أعصابهم وخرجوا عن اتزانهم.

ومن العجيب أن الناس إذا رأوا رجلاً ثائراً وقد أخرجه الغضب عن حدِّه في رمضان قالوا: لا عتب عليه ولا ملامة فهو صائم!!! كأن الصيام مبرر للغضب والسخط ومساوئ الأخلاق:[ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] {النحل:59}.

ولا ريب أن الإنسان في هذه الحالة عرضة لكثير من البلاء في نفسه بالمرض وفي ماله بالضياع وأولاده بالموت، وفي حياته العامة بالحروب وتوابعها من فقدان كثير من حاجاته التي تعودها في حياته، فإذا لم يتعود الصبر على ترك ما يألف أو على المشاق وقع صريع تلك الأحداث.

وينبغي أن يفهم أن الصبر ليس معناه: الخشوع والذلة والاستكانة، فإن المؤمن لا يصبر على الحرمات إذا رآها تنتهك، ولا يصبر على الباطل إذا رآه ينتصر، وعلى الحق إذا رآه يخذل، ولكنه يغار ويغضب صائماً كان أو غير صائم، وإن المؤمن لا يعرف الذلة ولا الاستكانة ولا الخضوع المطلق إلا لله تعالى فافرقوا بين الصبر وبين الخشوع، وبين ذل المؤمن لربه الذي خلقه فسواه، وبين ما يكون من الصغار والذلة للطغاة والمتجبرين.

الوازع الديني:

ومن آثار الصوم تعود المراقبة والخوف من الله تعالى في السر والعلن، ترى الصائم أميناً على نفسه، رقيباً عليها في الصغيرة والكبيرة وتتمثل فيه هيبة مولاه ومراقبته كأتم ما تكون. وهنا مسألة يجب على المصلحين وقادة الأمم وحكامها أن ينتبهوا إليها ذلك أن وازع الدين يفعل في النفوس ما لا يفعله وازع القوة والسلطان، فإذا ألف المرء أن يستمع إلى صوت ضميره وأن يراقب ربه ويخشى عقابه فقد أمن المجتمع بوائقه واستراح من كثير من شروره، أما إذا كان الاعتماد على وازع السلطان، وحارس القانون، فإن الحارس قد يغفل، والقانون قد يؤول وقد يتحايل للتخلص من سلطانه، لذلك تكثر الجرائم والمفاسد إذا قلَّت التربية الدينية، فعليكم يا حراس الأمن ويا رعاة النظام والاستقرار أن تعمدوا إلى تربية الناس بأسلوب الدين والفضيلة لتستريحوا وتوفروا جهوداً ضائعة في غير فائدة، فالمراقبة حارس قوي يمنع الإنسان من التفكير في الجرائم والشرور، ولعل هذا هو معنى ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين) أي: شدت بالأغلال.

أيها المسلمون:

هذه بعض الآثار المترتبة على الصوم وهي آثار كما ترون روحية معنوية، فيها تربية للنفوس وتقوية للقلوب، وتقريب للعبد من الإله الصمد، ولذلك ينسبه الله تعالى من بين سائر العبادات إلى نفسه سبحانه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) ويفخر بعبده الذي يقوم به على وجهه إيماناً واحتساباً فيقول تعالى: (يذر طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من الصائمين المؤمنين المحتسبين، وأن يعيد هذا الشهر المبارك والمسلمون على خير حال في دينهم ودنياهم إنه سميع مجيب.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة منبر الاسلام، السنة الثامنة عشرة، رمضان 1380 - العدد 9 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين