يتلونه حق تلاوته

د. صلاح الخالدي

قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121].
تُخبر هذه الآية الحكيمة أن الذين آتاهم الله الكتاب يتلونه حق تلاوته، ويؤمنون به، أما الذين كفروا بالكتاب فإنهم هم الخاسرون.
وقد اختلف المُفسرون في الذين آتاهم الله الكتاب المذكورين هنا:
-فمنهم من قال هم اليهود، والكتاب الذي آتاهم الله إياه هو التوراه، فهؤلاء يتلون التوراة حق تلاوتها، ويؤمنون بها، وإيمانهم الصحيح بها دفعهم إلى الإيمان بالقرآن، وبالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والدخول في الإسلام، وهم النصارى أيضاً، الذين آتاهم الله الإنجيل، وآمنوا به، وإيمانهم الصحيح به دفعهم إلى الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالآية على هذا القول تمدح اليهود والنصارى القلائل، الذين عرفوا الحق واتبعوه، وتلاوتهم لكتابهم الحقّة أوصلتهم إلى الدخول في الإسلام.
ومنهم من قال: هم المُسلمون، والكتاب الذي آتاهم الله إياه هو القرآن، وهم يتلون القرآن حق تلاوته.
ومع أن القول الأول ليس بعيداً، حسب التوضيح الذي ذكرناه، إلا أن الأرجح هو القول الثاني، والله أعلم. فالآية تثني على المسلمين الصادقين، وتمدحهم لإيمانهم بالقرآن، ولحسن تلاوته.
وصفت الآية تلاوة المسلمين للقرآن بأنها تلاوة حقة، وهي التلاوة الصحيحة المتقنة الشاملة الكاملة، التي استوفت شروطها وحققت أهدافها، وجنى أصحابها منها ثمارها..
فما هي التلاوة الحقة التي مدح الله بها أصحابها؟ وكيف تتحقق على أصولها؟!
لمعرفة تلك التلاوة المطلوبة لا بد أن نعرف معنى فعل "تلا"
المعنى الأساسي لفعل "تلا" هو: تَبِعَ. تقول: تلا الرجل صاحبه. أي : تبعه، وسار خلفه، وجاء بعده. والتالي: هو الذي سيأتي بعد قليل، فهو بمعنى التابع.
وقد ورد هذا المعنى صريحاً في القرآن. قال تعالى: "أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ " هود(17)
 
أي هو على بينه من ربه ويقين بأنه على حق، ويتبعه شاهد من الله يشهد له بأنه على بينة.
وقال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2)..[سورة الشمس] . أي : القمر يتلو الشمس ويتبعها، ويظهر بعدما تغيب.
التلاوة في هاتين الآيتين بمعنى التبعية. لأن كل من كان يتلو من أمامه فهو يتبعه، ولا بد في التلاوة من تالٍ ومتلوٍّ. أي لا بد من تابع يسير خلف المتبوع.
والآن نقف أمام قوله تعالى: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} ..
الفاعل في { يَتْلُونَهُ..} يعود على المؤمنين. والمفعول به "الهاء" يعود على القرآن. و:"حق" نائب عن المفعول المطلق. أي: يتلونه تلاوة حقاً.
والتلاوة الحقة هي التي تحقق فيها أعلى درجات الضبط والإتقان، والإجادة والإحسان، والتي تنتُج عنها أفضل النتائج والآثار.
تعالوا معنا أيها الأحباب الكرام نتعرف على التلاوة الحقة، كي نطبقها ونحن نتلو آيات القرآن. وننفذ أمر الله لنا بذلك.
هذه التلاوة الحقة الهادفة المُؤثرة تقوم على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: إحسان وإتقان النطق بآيات القرآن، والحرص على أن تكون التلاوة المتمثلة بالقرآءة خالية من الأخطاء في قرآءة القرآن على قارئ متقن، يُعلمه كيفية النطق بالقرآن.
ويدخل في هذه المرحلة إحكام ترتيل القرآن _ الذي تُسمونه تجويد القرآن، مع أن الله سماه ترتيلا_ وتَعلُّم أحكام الترتيل من مد وغُنّة وترقيق وتفخيم، ولن يتعلم القارئ إلا بتلقي أحكام الترتيل وتطبيقها عملياً، وذلك عن طريق الجلوس أمام عالم بها ومتقن لها.
المرحلة الثانية: فهم الآيات التي تلاها، ومعرفة معناها، والإلتفاف إلى دلالاتها، وذلك عن طريق تدبر الآيات، والوقوف على تفسيرها، وننصح كل تالٍ للقُرآن أن يكون بجانبه تفسيراً مُختصراً للقرآن، ليتعرف منه على معاني الآيات التي يتلوها.
وإذا كان قارئ القرآن يأخذ أجراً جزيلاً في المرحلة الأولى، بحيث يزيد أجره على الحرف الواحد عن عشر حسنات، فإن أجره يتضاعف عندما ينتقل للمرحلة الثانية القائمة على التدبر والفهم..
المرحلة الثالثة: تنفيذ أحكام القرآن وتطبيقها، بأداء الواجبات والمستحبات، والمندوبات والتوجيهات وترك المحرمات والمكروهات والمُنكرات والمنهيات ومنفذ أحكام القرآن في هذه المرحلة " يتلو القرآن حق تلاوته" ويُحقق الهدف من إنزال القرآن، ويوجد في حياته عملياً المعنى اللغوي للتلاوة، القائم على الإتباع.
معنى قوله تعالى: { يتلونه حق تلاوته} : يتبعونه حق اتباعه، وينفذونه حق تنفيذه، ويطبقونه حق تطبيقه، فالمراد بالتلاوة هو الإتباع الجاد الكامل.. وقد فسرها الصحابة أفهم الناس بالقرآن بهذا التفسير:
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يُحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يُحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول شيئاً منه على غير تأويله..
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: يُحلون حلاله، ويُحرمون حرامهُ، ولا يُحرفونه عن مواضعه.
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ومن يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة.
أحبابنا من أبنائنا وبناتنا: اتلوا القرآن حق تلاوته، وحققوا تلاوته، وحققوا مراحل التلاوة الثلاثة، أعانكم الله!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين