من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: أنا خيركم لأهلي

 

قالوا: أخبرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ربًّا لبيته وراعيا لأهله. 

قلت: يتعين على المسلمين بل العالمين فرضًا محتوما أن ينعموا النظر في سيرته في بيته، وسلوكه مع أهله وبناته متبصرين متروين، إنه كان فريدا منقطع النظير في كل شأن من شؤونه، وفيما قرب وبعد من أمور حياته، وما ظهر وبطن من قضاياها وأشكالها، اختاره الله رسولا إلى قومه ثم إلى الناس كافة، وكانت نبوته ورسالته هي سمته الغالبة وصفته المتحكمة فيه، ولم يتساه ولم يتغافل في لحظاته وتاراته عن أن كل ما ينطق به أو يفعله أو يتعامل به أو يرشد إليه لا بد أن يكون تابعا لمنصب الرسالة منسجما معه في توافق وتناغم، وأن لا يحصل تعارض أو تجاف بين منصبه وبين الصادر منه من قول أو فعل، فحياته الشخصية وحياته العائلية وحياته الاجتماعية كلها من مظاهر عبوديته ووسائل تقربه إلى الله تعالى والتزلف إليه زلفى.

قالوا: ما العلاقة بين عبادته وسائر شؤون حياته؟ 

قلت: ليست حياة المسلم، والنبي أول المسلمين وأفضلهم، حياة تعاش في "مختبر"، إنما الإسلام دين يطبق في جميع نواحي الحياة ومظاهرها على اختلاف وجوهها وصورها وتنوع ملامحها وهيئاتها، وفي تلاؤم تام وتآلف غير منقوص بين أعلى حقائق العبادة وأسفل الرسوم والعادات البشرية، وتوفر الصلوات وسائر العبادات أعظم مصدر للقوة والطاقة في سبيل ممارسة مجاري الحياة اليومية العادية.

وقلت: لم يشرع للمسلمين الرهبانية واللجوء إلى الزوايا والخبايا، وما الرهبانية إلا فرارا من واقع الحياة ودليلا على كامن الضعف والنقص في بعض النفوس، وقد ذكر الله تعالى من نعمه على أنبيائه أنه جعل لهم أزواجا وذرية ليعيشوا حياة عامة الناس في جميع شعبها ويقدموا لأممهم أسوة ومثالا، فحياة نبينا صلى الله عليه وسلم مع أزواجه جامعة بين طهارته وعفافه وعدله وقدوة مثلى لمن أراد أن يتقرب إلى الله زلفى مبتغيا مرضاته، وكان مع ذلك دائم اللجوء إلى العبادة، حتى يقول في الليل وهو مع زوجة من زوجاته: ذريني أتعبد الليلة لربي، فقالت: والله إني لأحبُّ قربَكَ وأحب ما يسرُّك، قالت: فقام فتطهَّرَ، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي، حتى بلَّ حِجْرَهُ، وكذلك في النهار يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.

قالوا: أخبرنا عن التنوع الذي نستلهمه من حياته في بيته ومع أهل بيته؟

قلت: كان بيته مهبط الوحي، ومقصد أوامر الله ونواهيه، ومنزل الملائكة المقربين، ومحل بركات السماء، وهو المستقر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير فيه أصحابه وأزواجه حول أجل الشؤون والقضايا خطورة وجسامة، وهو الموضع الذي يطبق فيه تعاليم القرآن الكريم وأحكامه، وهو المسكن الذي يستقبل فيه ضيوفه والوافدين عليه مكرما لهم وضامًّا إليه رحالهم ومستجيبا لحاجاتهم ومطالبهم وباذلا لهم معروفه، وهو المكان الذي يتبادل فيه المحاورات العادية، ويتحدث فيه حديث ود ومحبة مع أزواجه مدخلا الفرحة والسرور عليهن، وقد يضحك معهن ويمازحهن ملاطفا إياهن، فأهله بشر كعامة البشر، تجري عليهن أحكام البشرية، معانيات من الجوع والفقر، ومن الوئام والخصام والوفاق والخلاف، والتعاون والتسابق، والتخفيف عن المتاعب والتسلية، وما أروع ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني. فقال: "هذه بتلك.

قالوا: أخبرنا عن محبته لأزواجه وعنايته بهن. 

قلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة، وأخرج البخاري وغيره عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، وكان من عنايته بأزواجه أن لم يؤثر نفسه عليهن في مأكل أو مشرب أو متعة من المتع، أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن جارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيا كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء يدعوه، فقال :وهذه لعائشة؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، فعاد يدعو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذه؟ قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذه؟ قال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله، فانظروا إلى خلقه النبيل وشرفه أنه لم يقدِّم نفسه على زوجه في سد جوعه والالتذاذ بطيِّب الطعام، وكان والله امرءا كريما لا يعتري خلقه دنس ولا أفن، ولا يترقب فلتاتِ أزواجه وعيوبهن، وهو لحفظ جواره وصحبته فطن يقظ، ولا يحجب غناه عن أهله ولا يظهر الشكوى إذا زلت النعال، فما أجمعه لخصال الكرم ومحاسن الأخلاق!

قالوا: وكيف كان اشتغاله بشؤون بيته؟

قلت: كان يشارك أزواجه في المآكل والمشارب ومهام البيت الكبرى والصغرى، أخرج البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.

وأخرج أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، وأخرج أحمد عن عائشة، وسئلت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: كان بشرًا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.

قالوا: فالحياة العائلية أصعب من حياة الرهبان والمنتبذين والمعتكفين في الزوايا والخلوات والمنقطعين إلى الكهوف والغارات. 

قلت: أحسنتم، إن ذلك فرار عن الواقع، وتخلّ عن الواجب، وإيثار للبسيط على المعقد، وتقديم للسهل الميسور على الصعب الجاد، والحياة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم حياة حقيقية حافلة بالتنوعات والاختلافات، ومواجهة للمشاكل والتحديات، تلك حياة الجبناء والكسالى والضعفاء والمتباطئين، وهذه حياة الشجعان والناشطين والأقوياء والمتسارعين، تلك حياة زائلة فانية، وهذه حياة خالدة باقية، وليس لدهر الطالبين والساعين الخائضين في الغمار فناء، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، فلم يربط الخيرية بالعبادات، بل ربطها بالحياة العائلية، لأنها لا تتحقق إلا بالجمع بين العبادات وسائر الممارسات المتعبات المضنيات

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين