من الآبائية إلى التنوير

يثبت التاريخ أن "الإنسان ابن بيئته" فهو يفكر ويتصرف في ضوء عادات مجتمعه وتقاليده ومعتقداته، ولا يكاد ينجو من هذه العلَّة حتى كبار الفلاسفة الذين يفترض أنهم أصحاب عقل متحرر ورأي مستقل ! 

وإن مما يزيد في تفاقم هذه العلة واستحكامها ضغط المجتمع وعقوباته القاسية ضد الذين يحاولون الخروج عن مألوفه، المخالفين لاعتقاداته وعاداته وتقاليده، وقد أطلق القرآن الكريم على هذه العلة وصف "الآبائية" وعبر عنها باتباع الآباء في قول القائلين : "إنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثارِهِمْ مُهْتَدُون" سورة الزخرف 22، وقوله تعالى : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" سورة المائدة 104 ، وهذا ما دأبت عليه الأقوام السابقة التي جاءها الرسل والأنبياء فقد كان الجواب يتكرر دائماً، كما جاء على لسان قوم هود إذ قالوا لنبيهم : "أجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا" سورة الأعراف 70 ، وكذلك كان جواب قوم إبراهيم وجواب أبيه : "إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ" سورة الأنبياء 52-53 .

فالناس يتصورون أنفسهم في قمة الهداية، ورجاحة العقل، وسداد الرأي، عندما يسيرون على نهج آبائهم وأجدادهم ومن سبقوهم !

والآبائية .. علة عصية على العلاج؛ لا يقل علاجها صعوبة عن التحرر من جاذبية الأرض التي تحتاج إلى صاروخ جبار قادر على الانعتاق من هذه الجاذبية الطاغية ليسبح حراً في الفضاء الخارجي، وكذلك هو التحرر من أسر "الآبائية" يحتاج إلى إرادة خارقة للعادة، قادرة على اختراق حجب العادات والتقاليد والمعتقدات، للانطلاق نحو فضاء جديد يتمكن فيه العقل من التفكير في حرية، ويتمكن من الإبداع وتحقيق الإنجازات العظيمة !

وهذا ما عمل عليه فيلسوف التنوير فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626) الذي كرَّس فلسفته للتحريض ضد الأفكار العتيقة المتوارثة عن الآباء والأجداد، وقد لخص ذلك بقوله : ( يجب أن نقذف بجميع نظريات القرون الوسطى بعيداً، وكذلك الجدل والحوار والنظريات التي تحتاج إلى إقامة البرهان وننساها، ويجب على الفلسفة كي تجدد نفسها أن تبدأ مرة ثانية بقلم جديد ولوح نظيف وعقل مغسول مطهَّر، لذلك تكون الخطوة الأولى في الفلسفة هي تطهير العقل وتنقيته، وكأننا عدنا أطفالاً صغاراً أبرياء من الأفكار والأحكام المسبقة)

ونضيف نحن إن مقولة بيكون هذه ليست على إطلاقها، فمن حق المجتمع أن يدافع عن تراث الآباء والأجداد ويحافظ على ما فيه من خير، لأننا لو فتحنا الباب على مصراعيه لكل فكرة جديدة لفقد المجتمع تماسكه وضاع تراثه وفقد هويته، وأصبح مجتمعاً هلامياً ليس له شكل ولا لون ولا هدف َ

لهذا ينبغي للمجتمع الحريص على مستقبله وتراثه أن يتمتع بعقلية منفتحة تقبل الحوار مع كل جديد مهما كان غريباً عن المألوف، عقلية تكون في الوقت نفسه قادرة على النقد، والتمحيص، واختيار ما هو أفضل، دونما تحيُّز ولا تعصُّب للقديم بحجة أنه هو الأصل، وأنه هو وحده الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه !

ونظراً لما في الآبائية من علل، وما تخلفه من آثار مدمرة في العقل؛ فقد حذر الله عز وجل من هذه النزعة، ورد على المشركين عندما قالوا : "بل وجدنا آباءنا كذالك يفعلون" رد الله عليهم بقوله تعالى : "أولوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون" ؟!! وفي هذا الرد الإلهي الحكيم تحذير وتنبيه ودعوة إلى إعمال العقل؛ ذلك أن أتباع الآبائية يرثونها دونما تفكير، فنراهم يقدمون "الآبائية" على الحقيقة؛ فكلما فكروا في قضية وجدوا الآبائية تسيطر على تفكيرهم، وتتحكم في عقولهم، وتنطق على لسانهم، وهم مستسلمون لها تماماً بلا تفكير ولا وعي !

ومن ثم .. فإن الخروج من ظلمات الآبائية لا بد منه للوصول إلى التنوير المنشود، وتحقبق هذا الهدف يتطلب جيلاً يحترم الآباء احتراماً لا يمنعه من التفكير خارج صندوقهم؛ ولا يصل إلى درجة التقديس والعصمة التي تعطل التفكير .

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين