قولنا [ الكَمَاُل لله وَحْدَهُ ] لا يمنعُ منْ وُجودَ كَمَلَةٍ مِنَ الرِّجال وكواملَ منَ النِّساء

سأل سائل : هل يجوز أن نقول : ( الكمال لله وحده )

بعضهم يعترض على هذا الحصر ويقول: 

الحصر منقوض بثبوت الكمال " البشري" لبعض البشر في حديث الصحيحين عن أبي موسى يرفعه : " كمُل من الرجال كثير، ولم يكمُل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران..." الحديث. ومن الأدب مع الحديث الشريف أن لا ننفي ما أثبته. 

فما قولكم حفظكم الله ؟

أسلوبُ القَصْرِ في علم البلاغة ؛ يُستخدَمُ أحياناً لقصرِ الصفةِ على الموصوفِ ، وذلك حين يُرادُ أن لا تتعدَّاه الصفةُ إلى غيره .. وأشهرُ طُرُقِ القصرِ ما كان : بــ [ ( النفي ) و ( إلا ) - أو بــ ( إنما ) - أو بالعطف .] وقد يكونُ القصرُ أحياناً [ بلفظ ( وَحْدَه ) أو بلفظ ( فقط ) . ] ومن أمثلته قولهم [ الكَمَالُ لله وَحْدَهُ ] ففيها قصرُ صفة الكمالِ على الله عزَّ وجلَّ ، ونفيُهُ عن غيره سبحانه وتعالى .. و(الكمالُ) : يطلق ويراد به تمام الشيء وتناهيه في بابه .. 

وقد جَرَتْ عبارةُ [ الكَمَالُ لله وَحْدَهُ ] على الألسنة ، واستقر معناها عقيدة في القلوب ، بأن الكمال لله وحده .. لا يَشرَكُهُ فيه غيرُه .. 

ولكنَّ قوله صلى الله عليه وسلم : (كَمُلَ مِنَ الرِّجالِ كثيرٌ وَلَمْ يَكمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مريم بنت عمرانَ وَآسِية امرأة فرعونَ وفضلُ عائشةَ على النِّساءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ على سائِرِ الطَّعَامِ ) صحيح البخاري .. جاء مصرحاً بأن الكمال ثابتٌ أيضا لكثير من الرجال ولبعض النساء .. مما أوهم وجودَ تناقضٍ بين هذا الحديث وبين تلك العبارة ، التي تَقْصُرُ الكمال على الله وحده ..

لذلك كره بعضُهُم أن يقال [ الكَمَالُ لله وَحْدَهُ] خروجاً من تَوَهُّمِ التَّعارُضِ بين هذه العبارة ، وبين الحديث الشريف .

والحق أنه لا تَعَارُضَ بينهما ، لأنَّ الكمال المقصور على الله وحده في العبارة ، هو غير الكمال المثبت للرجال والنساء في الحديث . 

فــ ( الكمال المسندُ إلى الله تعالى ) هو (كمالٌ حقيقيٌّ مطلق ) لأنه مضاف إلى الله سبحانه وتعالى وهو مصدرُ الكمالات كلِّها ، فَلَهُ - عَزَّ وجَلَّ - كمالُ الرَّحمة وكمالُ القُوّة وكمالُ الـمُلْكِ وكمالُ الإرادة وكمالُ القُدرَة وكمالُ العِلْم . وكمالُهُ - عز وجل - هو كمالُ الله الخالق البارئ المصوِّر المتفرّد بذاته وأسمائه وصفاته ، الذي { ليس كمثله شيءٌ وهو السميعُ البصير (43) الشورى }..

أما (الكمال المسند إلى البشر) : فقد فهمنا من نصوص الكتاب والسنة ؛ أن ( النبوَّة ) هي المرتبة التي جعلها الله تعالى غايةَ الكمال البشري في الرجال .. وأن (الصدِّيقيةَ) هي المرتبةُ الثانية التي جعلها الله تعالى نهاية الكمال الإنساني في الرجال والنساء بعد الأنبياء . ومهما علا كمالُ الخلق ، فهو دون كمالِ الخالق سبحانه ..

ولا أَدَلَّ على الفرق بين كمال الخلق وكمال الخالق ، من كون الكمال متفاوتاً بين البشر ، فالرُّسُل الذين هم أكملُ البشرِ متفاضلون في الكمال ، وكذلك الحال بالنسبة للصِّدِّيقاتُ من النساء ؛ فقد ورد أن بعضَهُنَّ أفضلُ من بعض، قال تعالى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (253) البقرة }. وقال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) النحل } وقال تعالى { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ (75) المائدة } .

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ : ( قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ) . وعن عائشة رضي الله عنها ، قَالَتْ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ ، أَوْ عَنْ شمَالِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ ، فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ .!! فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ .؟ فَقَالَتْ : مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَسَأَلْتُهَا ، فَقَالَتْ : أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي ، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي فَبَكَيْتُ . فَقَالَ : أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ ) .

ومن وجودُ هذا التفاضُلِ بين الكَمَلَةِ وبين الكَوَامِلِ من الجنسين ، نستدلُّ على أنَّ كمالَ البشر نسبيٌّ محدودٌ ، وأنه ( إضافيٌّ ) غير حقيقي .. ولو كان الكمال واحداً في الوجود لما جاز أن يقعَ التفاضُلُ فيه ..

وما نوّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكمالِ مَنْ كَمُلَ من الرجال والنساء ؛ إلا ترغيباً بِتَطَلُّبِ الكمال ، وحـثّـاً على الرُّقِيِّ في سُلَّمِه صُعُداً بقدر المستطاع .. ليكون للمجتهد في إحراز الكمالات مزيدا من الكمال . 

ثم إن كمال البشر نسبيٌّ ، يختلف من كاملٍ لكامل ، فالكمالُ في الرجال مختلفٌ عنه في النساء ، فرُبَّ كمالٍ في الرَّجُل هو نقصٌ في المرأة ، ورُبَّ كمالٍ في المرأة هو نقصٌ في الرَّجُل .. خذ لذلك مثلاً ، الجرأةَ ، والعضلاتِ المفتولةَ ، ونباتَ شَعرِ اللِّحية والشاربين ، وغِلَظَ الصَّوتِ .. فهذه صفاتٌ محمودة في الرجال ، بينما هي مذمومةٌ في النساء .. مما يجعل الكمالَ هنا ، نقصاً هناك .. ومما يُحتّمُ علينا بالتالي ؛ عدمَ التسوية بين كَمَال المخلوقِ وكمال الخالقِ سبحانه وتعالى .. 

وزيادة في إيضاح هذا الفرق بين كمالاتنا وكمالِ الله سبحانه وتعالى ، نأخذُ صفة (الرحمة) مثالاً ، وهي إحدى مفرداتِ الكَمَال ، وسوف نجدُ أنَّ معناها يختلفُ بحسب الإسناد ، كيفاً وكمّاً .. عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ ) رواه البخاري .

فهذا الجزء الواحد في المائة من الرحمة ؛ يتراحمُ به أهلُ الأرض جميعاً من جنٍّ وإنسٍ وحيوان .. فانظر كَمْ يَتَضاءَلُ نصيبُ الفرد الواحد من ذلك المقدار اليسير من الرحمة ؛ عند المقارنة بينه وبين الرحمة الواسعة ، التي أمسكها عنده أرحم الراحمين سبحانه وتعالى .؟؟ 

وبهذا يتضح بجلاءٍ أنه لا تَعَارُضَ بين قولنا ( الكَمَالُ لله وَحْدَهُ ) وبين الحديث النبوي الشريف ، الذي أخبر عن وجود كَمَلَةٍ من الرجال ، وكَوَامِلَ من النساء . لأن قصر الكمال الحقيقي المطلق على الخالق ، لا يمنعُ من إسناد كمال إضافي للمخلوقين .

وفي الختام ، ننبّهُ إلى أن السائل قد استخدم كلمة (الحصر) وكان الأولى هنا استخدام كلمة (القصر) التي هي من مصطلحات البلاغيين . أما (الحصر) فهو مصطلح نحوي يرد ذكرُه في باب الاستثناء المفرغ ، حيث تعرب فيه (إلا) بأنها أداة استثناء ملغاة ، أو أداة (حصر) لا محل لها من الإعراب ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين