من آداب خطب النبي عليه الصلاة والسلام

للدعوة إلى الإصلاح طرق، ومن أقرب هذه الطرق نجاحاً، وأبلغها أثراً الخطابة، ولهذا شرعت في يوم الجمعة من كل أسبوع، وفي يومي عيد الفطر وعيد الأضحى من كل سنة، بل في كل وقت يَقتضي الحال فيه تذكير الناس بحكمة، أو أمرهم بمعروف، أو نهيهم عن منكر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض للخطابة عند كل أمر هام، وكتب الحديث والسيرة عامرة بأنباء وقائع يقوم فيها خطيباً، فيأمر أو ينهى أو يزيح أوهاماً علقت ببعض الأذهان.

ولقد كانت خطبه عليه الصلاة والسلام مُثلاً عليا، يحقّ على كل داعٍ إلى الإصلاح أن يقتدي بها، ويقتبس من آدابها، ويسوس النفوس بمثل أساليبها.

يحرص عليه الصلاة والسلام أن تطرق مواعظه آذان المستمعين متمايزة الحروف، مفصلة الكلمات، فكان يلقي الخطبة قائماً رافعاً بها صوته، وإنما يخطب على مكان مرتفع، ولذلك اتخذ المنبر في مسجده بالمدينة.

ويحرص صلى الله عليه وسلم على أن تقع الموعظة في قرارات النفوس، فكان يُلقي الخطبة بألفاظ مأنوسة وتأليف محكم، ومعانٍ بارزة في صور بارعة، فانظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه: (من كان همُّه الآخرةَ، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا فرَّق اللهُ أمرَه، وجعل فقره بين عَيْنيه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتب له) وهكذا تَرون خطبه مصوغة بألفاظ مألوفة، ومعانٍ قريبة المأخذ، وهي مع سهولة ألفاظها، وقُرب معانيها من أذهان الجمهور، قد حازت في مَرَاقي البلاغة الأمد الأسمى).

وربما أعاد صلى الله عليه وسلم الجملة فنطقها في ثلاث مرات مما يدل على أنَّها موضع اهتمام، ويخشى أن تمرَّ على أذهان المستمعين دون أن تستقرَّ في نفوسهم، كما قال صلى الله عليه وسلم في خطبة التشريق: (ألا لا تظالموا) وكرَّرها مرتين بعد الأولى.

ولم يكن عليه الصلاة والسلام يلتزم السَّجْع في خطبه، وإنما يأخذ فيها بطريقة الترسل إلا أن يجيء السجع عفواً، وذلك أن السجع الملتزم لا يخلو من تكلُّف تفقد به صور المعاني جانباً من الوضوح، وإن شئت مثلاً يشهد بأنَّ خطبه صلى الله عليه وسلم لم تُنسج على منوال السجع، فإليك قوله في إحدى خطبه: (فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكِبَر، ومن الحياة قبل الموت).

وقد أولع أكثر الناس منذ عهد بعيد بتسجيع الخطب، أما لقِصَر بَاعهم في البيان وإما لأنه الأسلوب الذي تلذُّه الأذواق لتلك العهود، وقد تحولت الأذواق اليوم فيما يظهر إلى استحسان الكلام المرسل، وإيثاره على السجع، حيث يبرز المعاني في صور تصل إلى القلوب عندما تصل الكلم إلى الآذان.

ولم يكن عليه الصلاة والسلام ليطيل الخطب، يخشى على الناس الملل، فلا ينتفعون بالموعظة انتفاعهم بها وهم يُصْغون إليها بإقبالٍ ونشاط، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ طول صلاة الرجلِ وقِصَرَ خطبته من فقهه).

وكانت خطبه صلى الله عليه وسلم مع قصرها ممتعة بالحكمة والموعظة الحسنة، إذ تجيء حافلة بجوامع الكلم، والجمل التي تجري على الألسنة مجرى الأمثال إيجازاً وبلاغة.

وقد يطيل صلى الله عليه وسلم الخطبة في غير يوم الجمعة متى اقتضى الحال الإطالة، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (خطب بعد العصر ولم يزل يخطب حتى لم يبقَ من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف).

وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح الخطبة بحمد الله والثناء عليه، ويصلهما بالتشهد، ويقول: (أما بعد) متنقلاً بها إلى حكمة أو موعظة، وقد يدع الخطبة العامة ويتجه في أثنائها إلى إرشاد شخص بعينه متى خشي فوات الفرصة، جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (صليت يا فلان؟) فقال: لا، فقال (قم فاركع) ثم عاد إلى الخطبة.

وقد يَستعين عليه الصلاة والسلام في تثبيت المعنى بالإشارة بيده إشارةً مُناسبة للمعنى، كما قال في إحدى خطبه: (بعثتُ أنا والساعة كهاتين) وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، وروي أنَّه كان يُشير بأصبعه السبابة عند ذكر الله تعالى ودعائه.

فالإشارة باليد لا تُلغي وقار الخطيب متى استعملت في أثناء الخطبة استعمالاً مناسباً للمعنى ومما يجعل للخطبة أثراً بليغاً في النفوس أن يكون الخطيب مخلصاً في وعظه حريصاً على أن يأتي بثمرات طيبة من المسارعة إلى الخير، والإقلاع عن الشرِّ، وقد يظهر لهذا الإخلاص أمارات في وجه الخطيب أو صوته، كاشتداد الغضب عند الإنذار، ورد في الصحيح أنَّه عليه الصلاة والسلام (كان إذا خطب احمرَّت عيناه، واشتدَّ غضبه حتى كأنَّه منذر جيش).

والناس يعرفون الغضب المتصنَّع، والبكاء الذي لم تبعثه خشية، فينبغي للخطيب أن يترك نفسه على فطرتها، ولا يهزها إلى مظهر الخشوع والغضب هزاً ليري الناس أنه حريص على إصلاحهم. 

ومن شواهد الرياء أن يأمرهم بالخير وينسى نفسه.

وكان عليه الصلاة والسلام ينظر إلى حال القوم يوم الخطبة، فيلقيها على مُقتضى حالهم، فيأمر بمعروف أخلُّوا به، أو يحذِّر من مكروه اقتربوا منه، وجرى على هذا الخلفاء الراشدون، والخطباء المصلحون، وهذا مُنذر بن سعيد قاضي قرطبة رأى الخليفة عبد الرحمن الناصر قد أسرف في تشييد المباني وزخرفتها، كما صنع في بناء الزهراء، فاتجه بخطبته إلى هذا الغرض، وأنكر فيها الإسراف في البناء والزخرفة، وإنفاق الأموال في غير مصلحته.

وشأن الخطب التي تلقى على طبقات من الناس مُتفاوتة في العلم والفهم أن لا يتعرَّض الخطيب فيها إلى المسائل التي قد يتعسَّر فهمها على كثير منهم، أو يتأولونها على غير وجهها. 

وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم جارية على هذا الشأن، بحيث يستوي في فهمها الطبقات المختلفة دون أن يجدوا فيها ما ينبو عنه الفكر أو يحارُ فيه العقلُ. 

وكان الصحابة رضي الله عنهم يراعون هذا الأدب الحكيم، فقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يخطب أيام الحج في أمر عرض له، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (لا تفعل فإنَّ الموسم يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك، فأخاف أن لا ينزلوها على وجهتها، فيطيروا بها كل مطار، فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار فيحفظوا مقالتك، وينزلوها على وجهها).

وطالما حاد أكثر الناس بالخطب عن سيرتها في عهد ا لنبوة، فبعد أن كان الخطيب يصور المعاني بفكره، ويكسوها ألفاظاً من عنده، ثم يلقيها مقبلاً على الناس ببصره، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، صار الخطيب يبحث عن خطبة صدرت عن قريحة غير قريحته، وكتبت بقلم غير قلمه، فيقف ممسكاً لها بيده، مقلباً فيها وجهه، ولا مرية أن الخطبة التي تصدر من قلب الخطيب، مصوغة في عبارات من صُنعه، هي أجدى نفعاً، وأعظم في النفوس أثراً، من خطبة يَسْتعيرُها من غيره.

وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة المساجد، السنة الثانية، ربيع الأول وربيع الثاني 1363 - العدد 3 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين