بكاء من أجل سوريا

في ثمانينيات القرن الماضي، ولعلها سنة 1982م كان من بين مشاريع الحركة الإسلامية الدعوية، التعريف بالكتاب الإسلامي وبيعه بأزهد الأثمان أمام المساجد، وقد كنت يومها صغيرا، أنتمي لجمعية إسلامية تدعى (التبين)، وما كنت أعرف أنني داخل تنظيمي دعوي يحمل هذا الاسم، لشدة السرية يومئذ، بالرغم من كون أنشطتنا لم تكن تنحو نحو العنف والتطرف، إلى أن فارقت التنظيم لتنظيم آخر الذي كان يحمل جمعية الجماعة الإسلامية، فتطور عبر الزمن حتى استقر به الوضع في حركة التوحيد والإصلاح.

وقد كنت يومها من التلاميذ الذين كلفوا ببيع الكتب الدعوية، مثل فقه السنة للسيد سابق رحمه الله، وكتب الشهيد سيد قطب رحمه الله، وأشرطة وكتيبات الخطيب البارع، والداعية المجاهد الذي طار صيته في العالمين، الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، وكتب سعيد حوى رحمه الله، وغيرهم كثير، لا يتسع المقام هنا لذكرهم، بل يكفي أنهم كانوا فرسان الدعوة، وأرباب العمل الإسلامي، الذين حملوا هم أمتهم، وحملوا عبئ الإصلاح، رحمهم الله جميعا.

فقرر الإخوة بالرغم من صغر سني، أن أصحب أخانا الداعية محمد القشيري حفظه الله، وكان يومها مكلفا بقطاع حي يعقوب المنصور بالرباط، إلى مدينة الدار البيضاء لشراء الكتب، لأنها فعلا العاصمة الاقتصادية للمغرب، ويوجد بها حي الحبوس، حيث توجد مكتبات ودور نشر كبيرة.

فلما وصلنا إلى الدار البيضاء، ذهبنا إلى بيت أحد الإخوة، لا أعرف اسمه، ولكنني أستحضر صورته جيدا، كان ذا قامة طويلة، ولحية كثة بيضاء يتخللها شيء من الشعر الأسود، فجلسنا عنده في بيته، وبعد تناول شيء من الطعام، عمد ذلك الأخ الكريم إلى آلة الراديو (المذياع)، حيث كان هذا الجهاز يشغل الأشرطة السمعية، فاستمعنا لشريط لأحد الدعاة السوريين، وهو يتحدث عن مأساة مدينة حماة، وما لاقته من الطاغية حافظ الأسد، والد هذا المجرم السفاك، من تقتيل للأبرياء، واغتصاب للنساء حيث زجوا بالحرائر العفيفات إلى عصابة من العساكر المجرمين فاغتصبوهن، فأصبحن حوامل، وتشريد للأسر، واستمر ذلك الداعية يعد مأساة حماة عدا، ويصف رزأها وجرحها وصفا، فلما رفعت رأسي أنظر إلى ذلك الأخ صاحب المنزل، فإذا بلحيته قد بللتها الدموع، وعيناه قد علتها الحمرة، من شدة الغضب والبكاء، وإذا بصاحبي هو أيضا لم يتمالك نفسه من البكاء، في مشهد محزن بالغ التأثير، وشديد الوقع على النفوس.

نظام القتل

هذا هو نظام آل "الأسد"، نظام أقيم عبر التاريخ على نظرية القتل، لا يبقي أحد، لا من الرجال والولدان، ولا النساء والصبيان، بل إنه تفنن في تقتيل الشعب السوري وملاحقة أبنائه، بل إنه يمثل الفرعونية في أعنف وأخس صورها، ويزيد عليها، ففرعون القديم "يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم" وفرعونية آل "الأسد" تقضي على سوريا كلها، تدمرها تدميرا، تأتي على الإنسان فتقتله وتهلكه، وتأتي على البلاد فتدمر عمرانها، وتخرب ديارها، وتجثت نباتها وزروعها، وتقتلع أشجارها، بل إن هذا الدمار لا مثيل له.

يقع هذا في ظل غياب كامل للقيم الإسلامية، والمبادئ الإنسانية، والقيم الكونية. لقد سقط القناع بأكمله، وانفضحت سوءة الغرب الصليبي، الذي لطالما ولازال يشنف الأسماع، بذكر الحرية والكرامة وتقرير المصير وهلم جرا من اللغو والباطل الذي يراد من ترويجه تخدير الشعوب، مع السكوت المطبق على جرائم النظام الأسدي، وإنما يضعون مساحيق مثل العواهر على وجوههم حين يقومون بضربات مخزية، لا طائل من ورائها، بل تؤكد تواطئهم ومشاركتهم للمجرمين في قبيح فعالهم.

من يرى مأساة السوريين اليوم، والتواطؤ الدولي عليهم، والتلاعب بقضيتهم، يجزم أن العالم اليوم تبرأ من كل القيم الإنسانية، وتنكر لكل المبادئ السامية التي جاءت بها شرائع الأنبياء، وأقرها العقلاء، ونافح من أجلها المصلحون الصلحاء، ألا يحق لنا أن نبكي على مأساة إخواننا السوريين، بلاد الشام، وبماذا ينفع البكاء في زمن الذل العربي المتصهين، الذي لم يعد يعنيه لا إسلام، ولا عروبة، وإنما انغمس في أتون الصهيونية البغيضة، وترك "إخوانه" السوريين وغيرهم يفترشون الموت، ويلتحفون بالقتل، لقد فقد العالم اليوم البوصلة تماما.

لقد أعمى حكام العرب خاصة والمسلمين عامة حب الرياسة، حتى استعبدوا بها الناس، وظنوا أن لا منجى لهم من اتقاء الشعوب إلا بالارتماء في أحضان الصهيونية والغرب، ونسي هؤلاء الحمقى أن:

المستجير بعمرو عند كربته=كالمستجير من النار بالرمضاء

في الوقت الذي ينبغي أن يكون الحاكم العربي قويا بشعبه، وبخدمته ووفائه لشعبه، صار خادما للغرب الصليبي، بغية حمايته، فأذلوه وأذاقوه الهوان والخزي، وهذا طبعا جزاء الخيانة. فهؤلاء ملوك الطوائف في غياب بن تاشفين. 

إن أملنا في الله تعالى أن يخرج هذه الأمة من هذه الظلمات الحالكات إلى الأنوار المشرقات، وأن يقيض لها رجالا يتفانون في خدمتها والذود عن حياضها، وأن لا يجعل مصيبتنا في ديننا وحكامنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين