كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون

- وردت كلمة (حزب) في كتاب الله تعالى في عدة مواضع؛ منها ما جاء في موضع مدح، ومنها ما جاء في موضع قدح، وهذا ما جعل الكثيرين يختلطون في حُكم التحزب بين محرِّمٍ ومبيح.

- في كل حال لا يجوز أن يكون التحزب هدفاً لذاته، بل هو وسيلة لتحقيق أهداف وغايات إيجابية محددة، فإذا تحقق الهدف صار التحزب عبثاً وعبئاً ثقيلاً، وإذا فشل الحزب في تحقيق أهدافه النبيلة، وجب البحث عن أدوات وأساليب مختلفة؛ فردية كانت أو جماعية، ولكن بالخروج عن الروتين المعتاد والنمطية السائدة.

- صحيح أن الأمة كانت أمة واحدة، وأنه لا يصح تفريقها، ولكن القصد في ذلك عدم جواز صرفها عن قبلتها وغايتها، أما وسائلها وطرق الوصول إلى تلك الغاية فمختلفة باختلاف اجتهادات الناس عبر الأزمنة والأمكنة؛ فالقبلة واحدة، ولكن الجماعات للصلاة تقام في أزمنة وأمكنة متباينة، قد تصل في تباينها إلى درجة التقابل، كما نرى حول الكعبة تماماً، فلا مشكلة في: (من أين؟ ومتى؟) إنما المشكلة في: (إلى أين؟) لأن ضبطها أساس ولا خلاف فيها، أما (من أين؟ ومتى؟) فيؤثر فيها مكاننا تحديداً.

- وحتى لو كنّا في مكان واحد قد نحتاج لإقامة جماعات متتابعة أو في مساجد متعددة، لضيق المكان أو لتباعد مسافاته، وهذا يعني أن اجتماع الناس متعذر، والله تعالى جعلنا مختلفين في تناولنا للأمور ونظرتنا للحلول، وهو اختلاف تنوع يثري، وقد يكون الدخول من أبواب متفرقة أنفع .. والمهم أن نلتقي عند (العزيز) كلنا ولو بعد حين.

- يتصور البعض أن الأحزاب والجماعات والتيارات الإسلامية هي التي فرقت الأمة، وسؤالي هنا: متى كانت الأمة مجتمعة بعد سقوط الخلافة الراشدة؟ ولماذا لا يقال بأن هذه الجماعات تحاول جمع شتات الأمة بعد تفرقها، وعندئذ لا يجوز الاستشهاد بحديث الإمام مسلم في معرض الإنكار على الجماعات، والحديث هو، قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ ".

- يمكننا تقدير الحكم الشرعي للتحزب بحسب مقصده والغاية منه على النحو الآتي:

أولاً: التحزب الحرام: إذا اجتمع عدد من الناس بقصد الإيذاء والفساد والظلم، كما اجتمع (الأحزاب) يوم الخندق لضرب دولة الإسلام، وفِي ذلك نزلت سورة الأحزاب .. وهنا قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ? أُولَ?ئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ? أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المجادلة: 19).

ثانياً: التحزب المكروه: إذا اجتمع عدد من الناس بقصد حسَنٍ، وأدى اجتماعهم إلى مفاسد تنقص من دينهم كالغيبة والنميمة فيما بينهم، أو كالتطاول على غيرهم من التكتلات والأحزاب الأخرى.

ثالثاً: التحزب المندوب: إذا اجتمع عدد من الناس بقصدٍ حسن، وحرصوا وتعاهدوا على كفّ ألسنتهم فيما بينهم وعن غيرهم.

رابعاً: التحزب الواجب: إذا اجتمع عدد من الناس بقصد القيام (بأمر واجب) يصعب أو يعسر تحققه إلا باجتماعهم، كالدعوة وتوعية الناس، ومواجهة الإلحاد والفساد، والجهاد ونصرة المستضعفين، وتحرير الأسرى والمسرى، واستئناف الحياة الإسلامية وإقامة شرع الله ودولة الإسلام .. ومن هنا قال الفقهاء: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقال تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة: 56).

- وقد يتم النظر في الحكم الشرعي للتحزب والاجتماع بحسب كونه من الضرورات أو الحاجيات أو التحسينات، ولا شك أنه قد يكون ضرورة لمقصد لا يتحقق إلا بها، وقد يكون يكون حاجة لصاحبها وللمجتمع، وقد يكون يكون أمراً تحسينياً لا يضر تركه.

- قد يقول البعض بحرمة التنظيمات والأحزاب والجماعات وبدعيتها، وتراه يمارس حزبيةً خاصةً على شكل مشيخات ومرجعيات دينية يتبع لها أو يديرها بنفسه، وينتصر لآرائها ويسعى لتحقيق غاياتها ويحشد الناس (التلاميذ) حولها، وإن كان لا يطلق عليها اسماً محدداً !!!.

- جاء التحزب في موضع ذمٍّ وقدحٍ مقترناً بسلوك حزبي قبيح؛ هو الفرح والافتخار لدى أتباع كل حزب بما عندهم وازدراء ما عند الآخرين، وقد جاء هذا الأمر في موضعين من كتاب الله تعالى؛ موضع يحكي أحزاب الكافرين والمشركين وما عندهم من منكرات يعتدون بها، ويتفاخرون بها على بعضهم البعض، قال تعالى: ( .. وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ? كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 32)، وموضع عام لكل حزب يتفاخر على الآخرين، وإن ذهب جمهور المفسرين إلى أنها تحكي اختلاف السابقين من أهل الكتاب تحديداً على كتبهم التي حرفوها لتوافق أهواءهم، قال تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ? كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون: 53).

- مثلما أن الممارسة القبيحة تعكر وتشوّش على المبدأ الجميل في كل شيء، وإن كانت لا تنفي جمال هذا المبدأ وقدسيته وأهميته، فالزواج والإقراض الحسن والشراكات الحلال بأنواعها كلها مبادئ جميلة، يعكرها النزاع والشقاق والخيانات التي قد تصدر عن بعض الأطراف، لكنها لا تنفي قدسية وجمال وأهمية تلك المبادئ، فكذلك الحال بالنسبة للتحزب المندوب أو الواجب (بحسب مقاصده)، فإن بعض الممارسات القبيحة ينبغي أن لا تلغي قيمته، ومن تلك الممارسات الحزبية التي نوصي باجتنابها قبل أن تتحول الحزبية إلى دائرة الكراهية أو الحرمة والإثم ما يأتي: 

1. الغفلة عن سلامة المقصد قبل وأثناء المسير، وأعظم مقصد لاجتماع الناس وتحزبهم هو تعظيم الله تعالى (في النفس والآفاق)، وأن يأخذ الناس بأيدي بعضهم لتمام الغاية الشريفة أو الفناء دونها.

2. عدم الاحترام والتقدير لجهود السابقين وأصحاب الخبرة من أبناء الجماعة الواحدة، واهدار خبراتهم وطاقاتهم بمجرد مغادرتهم مواقعهم القيادية.

3. الإساءة للأحزاب والمجموعات الاسلامية الأخرى وازدراء جهودها، والتصيّد لها، والنظرات المتعالية المتكبرة لجهود وتاريخ ومواقف الآخرين.

4. عدم توطين النفس والإمعية الحمقاء التي تجعل صاحبها يحسن إن أحسن حزبه، ويسيء إن أساء الحزب، والأصل الإحسان عند الإحسان، والنصيحة بترك الاساءة وعدم الانحراف، وإلا فلا مصلحة لك أن تكون في ركب المنحرفين المفسدين.

5. عدم احترام رأي الشورى في المسائل المختلف فيها وعليها أثناء المسير، وقهر المجموعة على رأي الواحد، والكثرة على رأي القلة، طالما أن الأمر مما يخضع للاجتهاد.

6. التكاسل والرخاوة في حمل راية الإسلام، باعتبار أنك في مجموعة تعمل وتحملك، والواجب أن تحملها أنت، لا أن تكون محمولاً عليها، وأن تخدم الفكرة ورسالة الجماعة النبيلة من منطلق وظيفتك وتخصصك وبامتداد علاقاتك وما وهبك الله من طاقة وفكرة ومال.

7. عدم الصبر واستعجال الثمرة، والاستعجال قد يؤدي إلى ترك الركب أو حرق المركب، وكلاهما خطير في عالم الدعوات والأفكار.

8. إيذاء الفريق والجماعة بإفشاء أسرارها، وكشف خططها ومسارها، وخرق السفينة بسبب الثرثرة الزائدة والتواصل المشبوه، سواء أكان ذلك بشكل مقصود أو غير مقصود.

9. الطعن في الجماعة بعد تركها، واستعداء خصومها عليها، فيكون أقرب إلى حال المنافق الذي إذا خاصم فجر وإذا ائتمن خان.

10. الاعتقاد بأن الحزب غاية والجماعة مقصد لذاتها، واعتبار أساليبها ووسائلها مقدسة، والروتين القاتل والنمطية السائدة، والجمود عندها مع تقادم الزمن ومع تنوع الأساليب والطرائق المشروعة للوصول إلى ذات الهدف وتحقيق الرسالة نفسها.

11. الاستكبار عن دعوات التنسيق والتفاهم المشترك بين الجماعات، والاعتقاد بأن حزبنا هو حزب الله الغالب، وطائفتنا هي الطائفة المنصورة، وكل الفرق في النار إلا فرقتنا فهي الوحيدة الناجية، على الرغم من سعة الجنة واستيعابها لعموم الطيبين.

12. الاعتقاد بأن ما يصدر عن جماعتنا وحزبنا قطعي الثبوت والدلالة، وعدم الاعتراف بأخطاء في المنهج أو في الترتيب وقعنا بها، وإغلاق أبواب المراجعات الداخلية، وعدم الاصغاء للنصائح الصادقة ممن هم خارج المربع.

13. اعتقاد جماعة أو فريق أو حزب أو تيار إسلامي أنه خارج الاستهداف من قوى الاستكبار العالمي .. فالمجرمون يستهدفون إخواننا اليوم، ولن يتركونا غداً، وما من جماعة ولا حزب إلا وقد اخترقته شياطين الإنس والجن .. ومن أقبح القبح أن نكون عوناً للجلاد في كشف عورة إخواننا وضربهم وحصارهم ونحن نحسب أننا نحسن صنعاً.

14. الاستهانة بجهود وأعمال النخب والأفراد الذين لم ينتظموا في أيّ مجموعة وجماعة وحزب، وتسفيه آرائهم والتقليل من دورهم، ومعلوم أنه أحياناً: قد يسعُ الفرد ما لا يسعُ الجماعة، فالشكر موصول لكل من يخدم نهضة الأمة، ولا حرج عليه إن غرّد وحيداً، وإن كنت تحب أن يغرد داخل السرب الطيب.

15. الانسياق وراء قوى الشد العكسي في المجموعة والحزب الواحد، فالشيطان ينزغ بيننا، وتأتينا بلاءات الوشوشات والتناجي والكولسات التي تنزع البركة وتعطل الحركة.

16. التسلق والوقوع في أفخاخ المتسلقين، ففي الأحزاب والجماعات والكتل مواقع ومناصب تجلب لأصحابها سمعة أو مالاً، فإن حلّ الطمع في النفوس فسد الأجر وحبط العمل وغرقت السفينة، والواجب أن نأتي للمواقع لنخدمها لا لتخدمنا، ولا نأتيها فرحين بل نأتيها مكرهين .. لأنها مسؤولية (وقفوهم إنهم مسؤولون) .. وأن لا نطيل المكث .. وأن نورثها لغيرنا في أحسن حال ممكن.

17. الانسياق وراء الإعلام الرخيص والإشاعات الكاذبة في الحكم على الآخرين دون استبانة .. فكما يحرص الخبثاء على تشويه سمعة الآخرين في عيوننا؛ يحرصون على تشويه صورتنا في عيونهم، وحسن الظن واجب، والتعميم والإطلاق مكروه، وصدق الله: (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَ?ذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (النور: 12).

18. التساهل في تناول الضعيف والموضوع من الأدلة، أو العبث بالنصوص واجتزاؤها وتجييرها لخدمة أهداف الجماعة والحزب، وإخفاء ما يتعارض مع آرائهم واجتهاداتهم .. وهذه من أخطر الآفات نعوذ بالله منها.

19. تقديم اجتهادات وآراء وأقوال زعامات وقيادات الجماعات على ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة.

20. الجمود وعدم الإبداع .. أو المرونة الزائدة التي تحرف الجماعة والحزب عن ثوابته.

- قد يقول قائل: وهل يمكننا اجتناب هذه الآفات كلها؟ .. والصحيح أن اجتنابها واجب ثقيل .. ويطلب من المرء ملاحظة وموازنة مصلحة وجوده في جماعة وحزب ذو مقصد نبيل، مع مفسدة ما قد يترتب على وجوده وانتمائه من تلك الآفات .. فالجماعة خير من الانفراد .. والانفراد خير من جماعة السوء التي لا نحمي بها أنفسنا، ولا نبني من خلالها غيرنا .. والاستخارة مطلوبة .. والأدب واجب، والله الهادي إلى سواء السبيل.

- وقد يسأل سائل: أليس من منهج السلامة ترك تلك الفرق والجماعات كلها بناءً على ما سبق من آفات وما فيها من هوىً متبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه؟! .. وللجواب على هذا السؤال: لابد من دراسة البيئة (الزمان والمكان)، ومعرفة حجم المصالح والمفاسد المترتبة على الانتظام أو الاعتزال .. فقد يكون في العزلة مهلكة كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالجماعة؛ باعتبار أن الذئب لا يأكل إلا من الغنم القاصية .. وليت الباطل يتركنا إذا تركناه .. فها هو يتحزب في كل حين لضربنا وسحقنا (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً).

- ما قيل في الجماعات والأحزاب يمكن أن يقال في المجموعات الالكترونية عبر الفيس والواتس وغيرها، فما كان فيه نفع ننتقي الأفضل، وننتمي إليه وبحذر، وما كان فيهم من سوء نجتنبه ونحذِّر الناس منه.

- لو نظرنا بإنصاف إلى حجم ما قدمته الجماعات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية، وما حققته من إنجازات منذ لحظة تأسيسها حتى هذه اللحظة، على ضوء ما تعرضت له من تحديات، وما أتيح لها من فرص، فإنه يمكننا الحكم على أدائها، فما تم إنفاقه من أموال وأعمار وجهود ودماء بقصد الخير لن يضيع عند الله تعالى، وإن أنكره المنكرون وجحده الجاحدون.

- وختاماً: فإن الكمال لله تعالى وحده .. والجماعات والأحزاب الإسلامية كلها اجتهادات بشرية .. فمنها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن .. والمسؤولية أمام الله تعالى كبيرة على زعماء تلك الأحزاب كلها .. فهم مستأمنون على عقيدة الأجيال وفكرها ..

والعاقل من يبحث عن الأفضل دون الفاضل .. ويترك المفضول .. والله تعالى أعلم بالصواب والأصوب ..

ونحن نسأله سبحانه أن يُرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه .. وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ..

قال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى? شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى? سَبِيلًا) (الإسراء: 84).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين