وقال الظالمون: إن تتبعون إلا رجلا مسحورا

 

قالوا: هل سُحِر النبي صلى الله عليه وسلم؟

قلت: لقد قَفَّ شعري واقشعر جلدي من هول هذا القول وهلعه منكرا إياه إنكارا شديدا ومستهجنا إياه استهجانا عظيما. أتعلمون أين أنتم؟ أتدرون من تتحدثون عنه؟ عن أفضل خلق الله وأحبهم إليه، عن خاتم النبيين وسيد المرسلين، عن النبي الصادق الأمين وصاحب الكتاب المبين، صلى الله عليه وسلم، ولقد أعظمت هذا القول البشع المرذول الذي أجراه الشيطان على لسانكم مستخِفًّا بعقولكم وساخرا من خرقكم وهوجكم.

قالوا: نرانا أسأنا إليك من هذا القول جارحين مشاعرك.

قلت: حاشاكم أن تسيؤوا إلي، ولكنكم أسأتم إلى رب العالمين غير متأدبين معه إذ طعنتم في حبيبه وصفوته في الخلق، أليس هذا القول الشنيع الرديءمن جنس ما قاله الكفار والمشركون فرد الله عليهم ردا بليغا مستفظعا صنيعهم؟ ألم تقرأوا قوله في سورة الإسراء (47-48)؟ "نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى، إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا، فلا يستطيعون سبيلا".

أو لم تقرأوا قوله في سورة الفرقان (8-9): "وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا".

قلت: بل وقد ندد الله تعالى بمن رمى غيره من الأنبياء بالسحر، فقال في ذكر موسى عليه السلام: "فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا" (سورة الإسراء 101)، وقال في ذكر صالح عليه السلام: "قالوا إنما أنت من المسحرين" (سورة الشعراء الآية 153)، وقال في ذكر شعيب عليه السلام: "قالوا إنما أنت من المسحرين" (الآية 185).

قلت: ألم تعلموا أن الله وعده بحفظه وعصمته "والله يعصمك من الناس"؟ أو لم تعلموا أن الله لا يخلف الميعاد"؟ وهل ترون الله يهجر نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم يتلاعب به الشياطين المردة والمرقة الكفرة والفسقة السحرة؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

ألاتعلمون أن الأفاكين الكذابين لم يعمل سحرهم في أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا سائر الصحابة والتابعين، ولا في أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد والشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم ومن والاهم من الأئمة الأعلام؟ ثم تعمدون إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي أيده الله بالآيات الظاهرة والحجج الباهرة والبراهين السافرة والسلاطين القاهرة فترمونه بالسحر؟ ألا تستحيون من الافتراء على الله ورسوله واختلاق الأكاذيب وإشاعة البواطيل؟

قالوا: قد اقتنعنا بما قلت، وعرفنا خبث هذا القول ودنسه مستيقنين، أفلا يستلزم قولك هذا رد حديث من الصحيحين؟ وهو ما أخرجه الشيخان وغيرهما من طريق هشام بن عروة عن أبيه: عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر حتّى كان يرى أنّه يأتي النّساء ولا يأتيهنّ".

قلت: ألم يرد أحاديث من الصحيحين من هو أفضل مني بدرجات؟

قالوا: ائتنا بأمثلة.

قلت: ألم يرد أبو حنيفة ومالك وأصحابهما حديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"؟ أو لم يرد أبو حنيفة وأصحابه حديث "المصراة"؟ أو لم يرد مالك والشافعي وأحمد بن حنيبل وأصحابهم حديث تزوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم"؟ في أمثلة كثيرة يطول ذكرها.

قالوا: لعلهم فعلوا ذلك غير متعمدين ولا منتبهين إلى شناعة ما أقدموا عليه. قلت: بل فعلوا ذلك متعمدين، ونبههم غيرهم على ذلك فلم يحفلوا.

قالوا: ائتنا بمثال.

قلت: قال الذهبي في ترجمة الإمام ابن أبي ذئب من سير أعلام النبلاء: "قال أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث " البيعان بالخيار "فقال: يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه. ثم قال أحمد: هو أورع وأقول بالحق من مالك. 

قالوا: ألا ترى أن لهؤلاء الأئمة الأعلام تأويلا سائغا محتملا في رد الأحاديث الصحيحة؟

قلت: طوبى لكم إذ تأدبتم مع الأئمة، وهذه هي سنة العلماء المتقين الورعين، وما أحسن ما قاله الحافظ شمس الدين الذهبي بعد نقل كلام الإمام أحمد في قصة ابن أبي ذئب: "لو كان ورعا كما ينبغي، لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث، لأنه رآه منسوخا. وقيل: عمل به وحمل قوله: "حتى يتفرقا " على التلفظ بالإيجاب والقبول، فمالك في هذا الحديث، وفي كل حديث، له أجر ولا بد، فإن أصاب ازداد أجرا آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية".

قالوا: أعجبنا إحسانك الظن بالأئمة الأعلام، فأين أنت منهم، ولقد رددت حديثا صحيحا وليس لك تأويل سائغ؟ قلت: لا تعجلوا علي، واسمعوا كلامي في ذلك الحديث مفصلا:

الأول: لو كان السحر استمر بالنبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر - كما ورد في بعض طرق الحديث - لانتشر الخبر بين خاصة المسلمين وعامتهم، ولأصابهم قلق شديد واضطراب غير هين، ولبذلوا كل جهد في دوائه وعلاجه، وقد كان إذا أصابه مرض استشار الأطباء، فلم يرو هذا الخبر - رغم تضافر الدواعي إلى استفاضته - من طريق صحيح إلا عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وتفرد الخبر في موضع يقتضي الانتشار يسمى شذوذا، وهيهات أن أتهم أم المؤمنين رضي الله عنها، بل أتهم من دونها أنه خلط في نقله كما سيأتي.

الثاني: لو بلغ به السحر إلى أنه كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، لأهمّ ذلك نساءه كلهن باذلات مساعيهن في كشف الضر عنه وساهرات عليه الليالي، وهن عاقلات طاهرات ناصحات له، ومن يشك في حب أم سلمة، وحفصة وميمونة وأم حبيبة وغيرهن رضي الله عنهن له صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر عنهن ما يدل على شيء من قصة السحر، وهذا ما يزيد الخبر شذوذا.

الثالث: لو عمل فيه السحر كما نص عليه هذا الخبر وكما قال راويه الإمام سفيان بن عيينة: "وهذا أشد ما يكون من السحر" لكان أثر ذلك السحر ظاهرا في أمور أخرى، ولم ينقل شيء من ذلك، وهذا كذلك يزيد الخبر شذوذا.

الرابع: وأغرب من ذلك كله أن يسكت أعداء الإسلام وخاصة اليهود وهم معه في المدينة عن تداول هذا الخبر فيما بينهم ونشره بين كافة العرب، وهم يتربصون به الدوائر، ومثل هذا أكبر دليل لهم على ما زعموا من بطلان الوحي وكذب الرسالة، ولو حدث شيء من السحر لاستغلوه لترويج دعايتهم الكاذبة استغلالا.

الخامس: أن طريق شفائه من أثر السحر فيه غرابة شديدة ونكارة، فلم تنفعه طهارته ولا صلواته ولا قراءته لكتاب الله ولا أدعيته، بل الذي أزال عنه أثر سحر لبيد بن الأعصم هو من قبيل ما يروجه السحرة المشعوذون، ولو كان سحر لبيد على ما وصف لعاد إليه لبيد ولأخفاه في مكان غير ذلك المكان.

السادس: أن هذا الحديث يعارض ما نص عليه القرآن الكريم من عصمة النبي صلى الله عليه وسلم.

السابع: أنه يعارض إنكار الله تعالى على الظالمين الذين رموه بالسحر.

الثامن: أنه يزرع الريبة في القلوب في شأن الوحي، ويفتح بابا واسعا للتشكيك في أمور كثيرة من الدين.

فالذي أراه أن القصة هي قصة حمى النبي صلى الله عليه وسلم، واختلط الأمر على بعض الرواة دون أم المؤمنين رضي الله عنها، وقصة الحمى هي ما رواه ابن عباس رضي الله عنها، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما شأنه أهجر استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه. وكذلك روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها شدة مرضه.

قالوا: هل سبقك إلى إنكار سحر النبي صلى الله عليه وسلم أحد غير المعتزلة؟ قلت: حسبي الله وكتابه، أو ليس من الواجب أن نؤمن بخبر الله تعالى وحده "ومن أصدق من الله قيلا"؟ وهل يحتاج الله إلى شهادة، "قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم"؟ أو ليس القرآن هو السند؟ أو يحتاج القرآن إلى سند، وهو الكتاب العزيز المهيمن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد"؟

قالوا: وددنا لو ذكرت لنا من سبقك إلى هذا القول.

قلت: إني لما وددتم لمن الكارهين، وأقول مكرها: سبقني إليه أبو بكر الجصاص الرازي (ت 370هـ)، والأستاذ محمد عبده، والإمام عبد الحميد الفراهي، والعلامة رشيد رضا، والشيخ جمال الدين القاسمي، والأستاذ أمين أحسن الإصلاحي، وآخرون معهم، قال الجصاص في أحكام القرآن 1/58: "وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع، وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه السلام سحر، وأن السحر عمل فيه ... ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا بالحشو الطغام". وقال الأستاذ محمد عبده: "ولا يخفى أن تأثير السحر فى نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أنه يفعل الشىء وهو لا يفعله ليس من قبيل تأثير الأمراض فى الأبدان ولا من قبيل عروض السهو والنسيان فى بعض الأمور العاديه بل هو ماسٌ بالعقل، آخذ بالروح وهو ممّا يصدق قول المشركين فيه " إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحورا " وليس السحر عندهم إلاّ مَن خولِط فى عقله وخُيِّل له أن شيئاً يقع وهو لا يقع فيُخيَل إليه أنه يُوحَى إليه وهو لا يوحَى إليه، وقد ذهب كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما النبوة، وما يجب لها بأن الخبر بتأثير السحر فى نفسه الشريفه قد صحّ ويلزم الإعتقاد فيه وأن عدم التصديق به من بِدَع المبتدعين لأنه ضرب من ضروب انكار السحر وقد جاء القرآن بصِحّة السِحر !! انظر كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح فى نظر المقلِّد بدعه! يَحْتَجّ بالقرآن على ثبوت السِحر ويُعْرِض عن القرآن فى نفيه للسِحر وعدّه مِن افتراء المشركين عليه ويُؤَول فى هذا ولا يؤوِل فى تلك .. مع أن الذى قصده المشركون ظاهر لانهم كانوا يقولون أن الشيطان يلابسه صلى الله عليه وسلم وملابسة الشيطان عندهم من السِحر وضرب من ضروبه وهو بعينه أثر السِحر الذى نُسِبَ الى لبيد فإنه قد خالط عقله وإدراكه فى زعمهم . وأمّا الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ به فى باب العقائد، وعِصمة النبى من تأثير السِحر فى عقيله عقيده من العقائد لا يؤخذ فى نفيها عنه إلاّ باليقين ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون والذى يجب الإعتقاد به أن القرآن مقطوع به وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم فهو الذى يجب الإعتقاد بما يثبته وعدم الإعتقاد بما ينفيه وقد جاء ينفى السِحر عن نفسه حيث نسب القول بإثبات حصول السِحر الي المشركين أعدائه ووبخهم على زعمهم هذا .. إذاً .. هو ليس بمسحور صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم ما أضَرُّ المُحِبّ الجهاهل .. وما أشدّ خطره على من يظن أنه يُحبّه". 

قالوا: إنك تنسب إلى الحديث وأهله ثم تنكر حديثا من أحاديث الصحيحين.

قلت: إن رد حديث أو أحاديث من الصحيحين إذا كان لوجه سائغ لا يخرج المرء من الحديث وأهله، وقد رد شيخنا محمد يونس الجونفوري رحمه الله تعالى حديث طول آدم وأنه كان ستين ذراعا، وهو من هو في حب الحديث والعناية به، وما أحسن ما قاله الشيخ جمال الدين القاسمي في تفسيره المسمى محاسن التأويل وهو ينفي السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه، وإن كان مخرجاً في الصحاح، وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من القدح والنقد سنداً أو معنى كما يعرفه الراسخون".

قالوا: ألا ترى أن يهاب الناس الصحيحين؟

قلت: بلى، ويجب على المسلمين أن يعظموا الكتابين ويهابوهما هيبة، ولكن لا ينبغي أن نغالي فيهما ونقدمهما على كتاب الله تعالى.

قالوا: قد عرفنا مخرج قولك وعلمنا أن لك وجها سائغا فيما ذهبت إليه، ولكن نكره أن يتعرض لك الجهال والسفهاء من الناس بالطعن والوقوع فيك.

قلت: لا يهمنكم أمري، فما أسعدني أن تكون نفسي فداء لعرض النبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسائر أولياء الله الصالحين، ونعم ما قاله حسان بن ثابت رضي الله عنه:

خلقت مبرءا من كل عيب=كأنك قد خلقت كما تشاء

فإن أبي ووالده وعرضي=لعرض محمد منكم وقاء

وأحسن منك لم تر قط عيني=وأجمل منك لم تلد النساء

وما أحسن ما قاله بعضهم:

رماك الظالمون كذِباً وزُرا=فقالوا عليك ساحراً ومسحورا

هذا ضلال واضح فى فِكرهم=فأنت مُرسَلٌ من الله معصوما

فهؤلاء ظالمون فلا عــجب=ففكرهم أعمى وعملهم مبتورا

أمّا العجَب فى مؤمنٍ بالله موحِدا=شَهِد لك مــُحمداً ومــحــمــودا؟

قال بقولهم ورماك بظلمهم=فالظلم مِنّا فقد اتخذنا القرآن مهجورا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين