بنيانُنا الإسلاميُّ من الفردِ إلى الدَّولة (2)

إن المجتمع الذي ستبنى عليه الدولة يجب أن يكون مجتمعًا قويًّا، الدولة لا تتشكل ولا تدار بمعزل عن حركة المجتمع وقواه وتنظيماته الأهلية، المجتمع السياسي هو ( الكل) والدولة هي البنيان الفوقي المؤسَّس على بنى المجتمع التحتية، ولذلك تكرّرت الآيات التي تفضح وتدين الذين يضادّون إصلاح هذا المجتمع {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [سورة البقرة: آية 205]، ومن الملاحظ أن التشريعات في المدينة أَوْلَت جانب المجتمع وتماسكه الاهتمام الكبير فبعد فرض الزكاة والحديث عن الصدقات جاء الحديث عن المال والثروة والتركيز على الضمان الاجتماعي وحقوق الفقراء لأن عدم التوازن في هذه الأمور التي تمس حياة الإنسان هو أحد الأسباب الكبرى لمشاكل البشر، وقد قامت دول وانهارت دول بسبب هذا الأمر (الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية).

ركز القرآن الكريم على اللُّحمة الاجتماعيّة ونعى التفرق والاختلاف الذي يمزق الأمة، ويكفي في هذا قوله تعالى{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [ سورة آل عمران: آية 103]، وأقام الإسلام مفهوم الأمة على أساس الدين وليس على أساس العرق أو اللون أو الحدود الجغرافية... هذا المفهوم هو أداة لإعادة تشكيل العالم وإصلاحه.

إن الأمة هي الأصل ثم تجيء الدولة تنظيمًا إداريًا لها، وإن دعوة جزء من الأمة ليكون من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لهو من أعظم الوسائل لحماية المجتمع وإصلاحه قبل أن تتدخل الدولة بقوتها وأجهزتها، وهي مسؤوليّة كبيرة حتى لا يُترك الانحراف يزداد ويتفشّى.

وحتى يكون هذا المجتمع نقيًّا؛ طلب من أفراده أن يتحلّوا بالعدل حتى مع أعدائهم {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [سورة المائدة: آية 8].

في هذا المجتمع يتوفر للفرد قدر من العناية بكل الوسائل المادية والمعنوية، كما جاء في الحديث ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)) في هذا المجتمع يقال لأفراده: {ليس البر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} [سورة البقرة: آية 177] أي إن هذه العبادة لا بد أن تنتج آثارها الاجتماعية، فالتضامن وإقامة العدل والوفاء بالعهود من أعظم العبادات، وإن إنفاق المال والصبر في البأساء والضراء هو الذي يجعل صاحبه مستحقّا لأن يوصف بالصدق والتقوى . 

إن نصوص القرآن والسنة تؤكّدان على مصلحة الجماعة، فإذا استوت على سوق تنشئة الفرد وتقوية المجتمع، عندئذ يصبح أمر الحكم والدولة هو النتيجة التي لا بد منها للمحافظة على ذلك الأساس، لأننا لا نستطيع أن نرمّم الدولة إذا كانت الأساسات واهية ضعيفة.

لقد بثّ القرآن الكريم في آياته قيم العدل والتشنيع على الظلم والظالمين الذين يجب ألا يتولوا أمور الناس {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمّهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [سورة البقرة: آية 124] {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [سورة ص: آية 26]، وتحدث القرآن عن قيم الشورى والبعد عن الاستبداد وثقافة الاستبداد، وقد استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم للشورى رغم مخالفتها لرأيه في موضوع الخروج إلى أحد لمقابلة جموع قريش أو البقاء في المدينة والدفاع عنها، وتنزلت الآيات بعد أحد لتقول للرسول صلى الله عليه وسل: أَدم على مشاورتك لهم رغم ما حصل {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} [سورة آل عمران: آية 159] ووصفت حالة المسلمين في أحوالهم العادية بأن أمرهم شورى بينهم، وليس أيسر من تطبيق الشورى إذا كان الإنسان مؤمنًا حقّاً يعرف أنه يتعامل مع الله في كل ما يصدر عنه من تصرف.

لقد وضع القرآن الأسس الكبرى والأصول الجامعة التي يستنبط منها العلماء في كل زمان طريقًا صحيحًا للعمل، يقول الإمام الجويني: (معظم مسائل الإمامة عريَة من مسالك القطع، خليّة من مدارك اليقين) إنها اجتهادية وليس فيها نصوص قطعية.

وقد تكونت الأمة في الإسلام قبل السلطة التنفيذية، وكانت الشريعة هي الحَكَم بين المسلمين قبل شكل الحكم، وجاءت الآيات كأسس للدولة وللسياسة قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [سورة النساء: آية 58]، {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [سورة النساء: آية 59]، {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولوروده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [سورة النساء: آية 83]، {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [سورة الجاثية: آية 18].

دعا القرآن إلى مقاومة الظلم وعدم القبول بحالة الاستضعاف فقال: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} [سورة النساء: آية 97].

لقد طاف القرآن بالمسلمين خلال العصور لينظروا في أحوال الأمم ونتائج أعمالها، ويفكروا في أسباب تطورها وتقدمها أو أسباب تأخرها وتراجعها، وتحدث القرآن طويلًا عن السنن الإلهية في تاريخ البشر، وسنته تعالى في هلاك الأمم إذا بطرت معيشتها وعاثت فسادًا في الأرض فقال: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [سورة الأعراف: آية 85]، {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} [سورة الأعراف: آية 142].

ومن السنن أن التمكين في الأرض يكون لأهل الصلاح والإصلاح {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [سورة الأنبياء: آية 105]، وذكر سبحانه سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} أليس هذا مما يخدم السياسة، بل هو من قواعد السياسة، لأن هذه السنة تطهر الأرض من الفاسدين، كما كان تطهير المجتمع الإسلامي من الداخل له الأولوية، فإن أول سورة نزلت في المدينة (البقرة) تحدثت عن المنافقين واليهود ، وتتنزل آخر سورة (براءة) وتتحدث عن المنافقين واليهود، أليس هذا حماية للدولة من الغدر ونكث العهود ونقض المواثيق .

أشار القرآن إلى العلاقات الدولية، إلى الامبراطوريات المجاورة للمسلمين، وأن الصراع بينهما هو لصالح المسلمين {غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [سورة الروم: آية 2-3]، وهذا يعني أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا بمنأى عن هذا التدافع والصراع ولا بد أن يتصرفوا التصرف الصحيح حيال ذلك، وفي العلاقات الدولية أوجب القرآن على المسلمين الوفاء بعهودهم {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [سورة الإسراء: آية 34].

أصّلَ القرآن القواعد الأساسية للاقتصاد والثروة وترك التفاصيل في المعاملات ومعايش الناس لاجتهاد العلماء والخبراء حسب ما يكون فيه تيسيرًا على الناس في أمور دنياهم، قال تعالى عن أهمية المال لمجموع الأمة {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [سورة النساء: آية 5]، ونهى القرآن عن أكل أموال الناس بالباطل وحرّم الربا وأحل الطيبات وحرّم الخبائث، ودعا المسلمين إلى توثيق العقود وهذا فيه حفظ للمال وابتعاد عن الخصومات وهو أمر بالغ التحضر والمدنية قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه} [سورة البقرة: آية 282]، وفي سورة الحشر أمر الله سبحانه بتوزيع الفيْء على مستحقيه ليدور المال ولا يجتمع بيد أفراد محدودين {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [سورة الحشر: آية 7].

والإسلام لا يشعر بالحرج أمام نظم اقتصادية رأسمالية أو اشتراكية لأن الأسس التي وضعها تختلف عن أسس الرأسمالية أو الاشتراكية، وليس هو الدين الذي يضطر لتغيير منهجه مع كل نظام اقتصادي يطرأ على البشرية أو كل نظام سياسي . 

وأما تطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم للقواعد والأسس التي جاء بها القرآن لتنتظم بها أمور المسلمين؛ تطبيقًا عمليًّا في واقع المدينة النبوية وواقع الجزيرة العربية آنئذ، وما قام به الخلفاء الراشدون من متابعة لسنته صلى الله عليه وسلم واجتهاد في أمور حدثت مع توسع الدولة الإسلامية، كل هذا له حديث آخر أعان الله على ذلك . 

الحلقة الأولى هـــنا 

المصدر: مجلة مقاربات 

------------

برتراند رَسْل : مختارات من أفضل ما كتب /101 

هروبي إلى الحرية /49

كتب هذا قبل سقوط الاتحاد السوفيتي 

اسماعيل الفاروقي : التوحيد /283

الشيخ محمد عبده : الأعمال الكاملة 3/159

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين