الحرب العلنية على السنة النبوية

#التركيز_على_الطعن_بأبي_هريرة_رضي_الله_عنه

في الفترة الماضية كان التخطيط للطعن بالإسلام ومصادره خفياً ، والآن أصبح ظاهرا ومكشوفا ، كنت قبل قليل أستمع لمقطع فيديو لندوة عقدها بعض المثقفين الغربيين في دولة أوربية يتعلق بالجهود المبذولة للطعن في السنة النبوية لدى المسلمين ، ثم تكلم أحد الأكاديميين اليهود وواضع على رأسه القبعة اليهودية فأثنى على شخصية ليست عربية في بحوثه للطعن في السنة النبوية ، ولكن اقترح لأجل نجاح هذه الجهود بأن يقوم بذلك شخصيات عربية من المثقفين والمفكرين حتى يكون أثرهم أكبر ويتقبل المسلمون كلامهم .

ومع كل الحرب على السنة النبوية أصبحت علنية ومكشوفة ولكن للأسف لازال بعض المسلمين المثقفين يرددون كلامهم أعدائهم في تشكيكهم في الأحاديث النبوية ورواتها الثقات .

انتشر مؤخّرا فيديو ترويجي من قبل مؤسسة "أصوات مغاربية" بعنوان :

"7 أشياء صادمة عن أبي هريرة؟ ولماذا يعتبره البعض من أكثر الشخصيات غموضا في التاريخ الإسلامي؟" ، وهذه المؤسسة "أصوات مغاربية" مدعومة من مراكز بحوث أمريكية، وتعرّف نفسها في موقعها الرسمي بأنّها "تابعة لشبكة الشرق الأوسط للإرسال MBN، وقد قامت قناة "الحرة الأمريكية " بالترويج لهذا المقطع .

والغريب أن الفيديو يركز على الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه ، ويردد نفس الشبه التي قالها بعض المستشرقين والرافضة حوله ، ولكن الآن ترددها أبواق تدعي الإسلام السني .

في البداية لابد من التعريف بأبي هريرة بشكل مختصر : 

اسمه على الأرجح عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، من قبيلة دوس العربية ، اشتهر بأبي هريرة ، وهو صحابي معروف بحفظه للحديث النبوي ونشره، أسلم عام خيبر في أول السنة السابعة للهجرة، ولزم النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين متتبّعا سننه العملية والقولية والتقريرية وصفاته لتوثيقها. وقد قال بنفسه كما روي عنه في صحيح البخاري: "صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لم أكن في سنيّ أحرص على أن أعيَ الحديث مني فيهن". .

وهذه هي الشبه التي يعرضها هذا المقطع :

1- الشبهة الأولى : أبو هريرة شخصية غامضة ومجهولة؟ يقول خصوم الرجل إنّه كان شخصية غامضة ومجهولة، ويستندون في ذلك إلى اختلاف أهل العلم بعد عصره حول اسمه.

الجواب :

الرجل معروف باسم علَم اشتُهر به، هو أبو هريرة، وبانتسابه القبلي، الدوسي، فكيف يُقال إن اسمه مجهول؟ أما اسمه الشخصي واسم والده فالراجح عند العلماء أنه عبد الرحمن بن صخر، وقد حصل الاختلاف بعد عصر الرجل، ولم يكن مجهولا في عصره، وهذا لا يطعن في شخصيته ومعرفتها، إذا كان اسم أبي هريرة قد بات اسم العلم الأكثر شهرة له.

وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كذلك اختلف في اسمه فمنهم من قال أنه "عبدالله" ، ومنهم من قال اسمه "عتيق" ، ومع ذكر اشتهر بكنيته لقبه، وكذلك فليس له ولد اسمه بكر" 

والآن أدعوك أيها القارئ إلى التفكير بشكل علمي: افتح كتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي، ستجد هناك إحصاء لأكثر من 300 اسم لصحابة وتابعين ممّن رووا عن أبي هريرة كما ورد في كتب الحديث والتراجم، وعددٌ كبير جدا منهم من الأعلام الثقات المشهورين، التقوا بأبي هريرة ورووا عنه الحديث، جميع هؤلاء لهم تراجم وبيانات هائلة في كتب التراجم والطبقات، جميعهم يعرفون الرجل ويزكّونه ويقرّون بعلمه وقدره ويأخذون عنه الحديث. فهل يُقال عن مثل هذا "مجهول" أو "غامض"؟! ومن الطريف أنهم يقولون "غامض" و"مجهول" ثم يقولون إنّ عمر بن الخطاب ولّاه على البحرين! وهل يولّي عمر إلا من يعرفه ويثق به؟! وهل يُولّى الغامض المجهول الذي لا يعرفه الناس؟!

2- الشبهة الثانية : كيف روى أبو هريرة ( 5374 حديثًا ) مع قصر مدّة ملازمته للرسول ومع أنّ الرسول لم يكن مُكثرا في الحديث؟

الجواب :

السنوات الثلاث ليست مدّة قصيرة، بل هي كافية لهذا العدد وأكثر منه.

وكذلك فإن العدد هو في الواقع رقم تقديري لمرويات أبي هريرة في كتب السنة، وهذا العدد شامل للمكرر

ولنقم الآن بعملية "تنخيل" لنصل إلى العدد التقريبي الصحيح لِما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- بعد حذف المكرر من تلك الروايات سنصل إلى نحو 1500-1600 رواية فقط! هي عدد الأحاديث التي رواها أبو هريرة، وشاملة للصحيح والضعيف . 

وهذا العدد الذي رواه أبو هريرة (نحو 1500) لم يتفرّد به، فالغالبية الساحقة منه أحاديث رواها غيره من الصحابة، وما تفرّد به هو نحو (110 ) أحاديث فقط جمعها الأخ محمد بن علي المطري في بحث له منشور على الشبكة بعنوان "عدد أحاديث أبي هريرة: تحقيق واستقراء"

3- الشبهة الثالثة : هل كان أبو هريرة مدلّسا؟ وما معنى "التدليس"؟

يقول المتحدث في فيديو "أصوات مغربية" إنّ الإمام الذهبي قد ذكر في السير "أنّ أبا هريرة كان يدلّس ويلقي أحاديث غريبة بالمئات". والصحيح أنّ ما ذكره الذهبي هو التالي: "قال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة يدلّس". ولم يذكر أنه كان يلقي أحاديث غريبة بالمئات! ولاحظ معي أيها القارئ أنه لا علاقة بين مصطلح "التدليس" وبين الأحاديث الغريبة، فصاحب هذه الشبهة يستغل جهل بعض المسلمين بمعنى مصطلح "التدليس"، ويعتمد على الظلال السلبية الحادّة لكلمة "التدليس" في عصرنا، بينما هي تعني في الحديث أن يحدّث عمّن سمع منه ما لم يسمعه منه.

فمثلا يمكنني أن أقول: "قال أبي كذا وكذا"، بينما أنا سمعت الكلام من أخي الذي سمعه عن أبي؛ فرويته عن أبي مباشرة ثقةً بأخي واختصارا للكلام.

فمثلا: لو سمع أبو هريرة حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلّم من أبي بكر الصدّيق، فإنّه قد يحدّث في مجلس من المجالس قائلا: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..."، وليس في هذا عيب، ولهذا علّق الذهبي مباشرة بعد نقله لقول شعبة (وهو ما لا يذكرونه!): "قلت: تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه؛ فإن تدليسهم عن صحابي أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول". والخلاصة أنّ وصف شعبة لأبي هريرة بأنه "كان يدلّس" ليس ذمّا بل هو توصيف علمي.

4- الشبهة الرابعة : كيف روى أبو هريرة أكثر من صحابة لازموا النبيّ صلى الله عليه وسلّم 23 عامًا؟

ما يردّده بعضهم في إطار هذا التساؤل أنّ بقية الصحابة الذين لازموا الرسول صلى الله عليه وسلم مدة أطول من أبي هريرة لم يرووا عن الرسول إلا بضع أحاديث، وهذا غير صحيح، وانظر أيها القارئ إلى هذه الإحصائية لبعض المكثرين من الرواة، وهي عن بحث الأخ محمد بن علي المطري المذكور: أنس بن مالك: 546. عبد الله بن عمر: 480. عبد الله بن عباس: 450. جابر بن عبد الله: 400. عائشة أم المؤمنين: 392. أبو سعيد الخدري: 312. عبد الله بن مسعود: 274. عبد الله بن عمرو: 245. أبو أمامة: 141. علي بن أبي طالب: 127. أبو موسى الأشعري: 123. أبو ذر الغفاري: 106. وغيرهم كثير. فكيف يُقال بضعة أحاديث؟!

وهناك أمر مهم يجب الانتباه إليه، أنّ صحابةً مثل عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق من الطبيعي جدا ألا يرووا العدد الذي رواه أبو هريرة. ولنقارن بين عمر بن الخطاب الذي صحب النبي أكثر من أبي هريرة وبين أبي هريرة، فقد ذُكر أنّ عمر قد روى نحو 83 حديثا (وهي ليست بضعة أحاديث أيضا!)، فماذا يعني ذلك؟ حتى تفهم السبب انظر إلى تاريخ وفاة عمر، فهو 23 هـ، بينما توفي أبو هريرة عام 59 هـ. هل تعلم ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ هناك 33 عامًا كاملة بعد وفاة عمر، دخل في الإسلام فيها الملايين، وولد مئات الآلاف ممن لم يرَوا الرسول صلى الله عليه وسلّم. عمر في المدينة، عاش بعد النبي فترة كان مشغولا فيها بشؤون الدولة، سواء كوزير لأبي بكر أو كحاكم فعلي لدولة كبيرة، ولم يتفرّغ للتحديث، وفضلا عن ذلك (وهو الأهم) أنّه وهو في المدينة لمن يحدّث؟ معظم المجتمع من الصحابة الذين سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، والسنن في المدينة منتشرة في سلوك الناس وأحوالهم لا تغيب.

أما أبو هريرة، فبعد عشرات السنين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونشأة أجيال من المتلهّفين لسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير الصحابة، خصوصا من الأمصار الأخرى؛ بعد ذلك كلّه من الطبيعي جدّا أن تكون هناك حاجة بأنْ يُخبر الصحابي المتأخر هؤلاء بأحاديث النبي وأحواله، فكيف إذا كان قد تخصص لذلك لنحو ثلاث سنوات، وتفرّغَ لسماع الحديث وتتبُّعِ أحوال الرسول صلى الله عليه وسلّم، ورزقَهُ الله حافظةً قويّة؟ هنا يزول أي عجب من كثرة أحاديث أبي هريرة بالمقارنة مع كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. 

5- الشبهة الخامسة : الطعن في نزاهة أبي هريرة

في سبيل الطعن بنزاهة أبي هريرة يقصّ هؤلاء قصصا جمعوا بعضها من كتب أشخاص متأخرين عن أبي هريرة بقرون، كابن أبي الحديد المتوفى سنة 656 هـ، وغيره. ومن هذه الروايات التي لا تصح ضرب عمر له بالدرّة، ورواية مضيرة معاوية، ورواية عائشة أنه شغله بطنه عن رسول الله، وغيرها. وهي قصص موضوعة أو واهية ضعيفة على الأكثر ولم يصحّ شيء منها، مما يعفينا من جهد مناقشتها.

والعجيب أنّ هؤلاء الذين يرفضون الحديث النبوي الصحيح المتفق عليه والمروي بالأسانيد الذهبية، يتمسّكون بروايات واهية محكية في كتب التراث ولا يثبت شيءٌ منها فقط لأنها تخدم أغراضهم! بل والمضحك أنّ بعض تلك القصص ممّا لا يصدّقه عاقل، كقصة مضيرة معاوية، والتي تزعم أن أبا هريرة كان يأكل مع معاوية في الشام، ثم إذا حضرت الصلاة صلّى مع عليٍّ في العراق، وهو كلام لا يصدّقه إلا المجانين!

هذا هو أبو هريرة رضي الله عنه، الصحابي الجليل الذي تصدّى لمهمّة علمية جليلة أفادت الأمة من بعده، فعزّزت رواياته رواياتٍ أخرى رواها صحابة آخرون، وساهم في نشر سنن المصطفى صلى الله عليه وسلّم لأجيال جاءت بعده. ولعل هذ النصّ ممّا يرويه هو عن نفسه يطلعنا على الجهد الجبّار المتفاني الذي كان يبذله، وما كان يحتمل في سبيل غايته العلمية الجليلة، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد كان من أهل الصفّة: "أن الناسَ كانوا يقولونَ: أكثرَ أبو هُرَيْرَةَ، وإني كنتُ ألزمُ رسول الله ? بشِبَعِ بطْني، حين لا آكلُ الخميرَ ولا ألبَسُ الحَبيرَ، ولا يَخْدُمُني فُلانٌ ولا فُلانةُ، وكنتُ أُلْصِقُ بطني بالحَصْباءِ مِن الجوعِ، وإنْ كنتُ لأسْتَقْرئُ الرجلَ الآيةَ، هي معي، كيْ يَنْقَلِبَ بي فيُطْعِمَني، وكان أخيرَ الناسِ للمسكينِ جَعْفَرُ بنُ أبي طالِبٍ، كان يَنْقَلِبُ بنا فيُطْعِمُنا ما كان في بيتهِ، حتى إنْ كان لَيُخْرِجُ إلينا العُكَّةَ التي ليس فيها شيءٌ، فَنَشُقُّها فَنَلْعَقُ ما فيها".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين