هل يصنع القرآن العنف والتطرف؟!

-1-

في العالم اليوم نحو ألفَي مليون مسلم، ولا ريب أن نصفهم على الأقل يقرؤون القرآن بانتظام، وكثير منهم يسمعون خطب الجمعة على المنابر ويقرؤون المقالات الدينية في الدوريات ويتابعون المواعظ والأحاديث في الفضائيات، فهم يشتركون في الفهم العام الشائع للقرآن والإسلام. فإذا كان الإسلامُ دينَ العدوان والإرهاب وإذا كان القرآنُ كتابَ العنف والقتل والإجرام فينبغي أن يكون مئات الملايين من المسلمين قَتَلة متجولين، وعندئذ لن يمر يوم إلا وتنقل لنا الأخبار عشرات الحوادث، بل المئات، بل الآلاف من حوادث القتل العشوائي والاعتداء الظالم والعنف والإرهاب.

إلا أننا، ويا للغرابة، تمرّ بنا الأيام والأسابيع والشهور المتتالية حتى نسمع بحادثة واحدة من تلك الحوادث الشاذة التي تقشعر منها أبداننا -نحن المسلمين- قبل أن يستنكرها ويستقبحها الآخرون! فهل قرأ عامة المسلمين القرآنَ فلم يفهموا منه توجيهاً إلى القتل والإرهاب، أم فهموه ثم تقاعسوا عن الاستجابة والتنفيذ؟

وإذا كان التفسير المقبول لجنون بعض المجانين من المسلمين هو تأثرهم بالقرآن فبأيّ شيء نعلل جنون المجانين من غير المسلمين: الذي اقتحم مدرسة للأطفال فقتل التلاميذ بلا تمييز، والذي فتح النار من بندقيته الرشاشة في مطعم متواضع فقتل الآكلين الآمنين، والذي هاجم كنيسة للسود فقتل فيها عشرات المصلين، والذي فجّر مركزاً لإيواء المهاجرين، والذي قضى بالسم الزعاف على نحو ألف من أتباعه المهووسين؟

إننا نجد الجنون موزعاً بالتساوي بين الأمم والثقافات المختلفة، فلماذا لم نفسر إجرام غيرنا بالتربية الإنجيلية والتوراتية وفسرنا بالقرآن إجرامَ مجانين المسلمين؟

-2-

ما سبق نقض علمي إحصائي لهذه التهمة الباطلة وهذا الادعاء الغريب، ولكنه ليس النقدَ الوحيد الذي يُرَدّ به على الدعاوى المتهافتة التي توظف آيات القرآن، فتنتزعها من سياقها وتعزلها عن سباقها ولحاقها وتجمعها في صعيد واحد لتصوّر القرآنَ كتابَ عنف وقتل وإرهاب.

إن القرآن كتاب عقيدة وتشريع، وكتاب هَدْي ورحمة، وكتاب سلم وحرب، وكتاب نور وحكمة، وكتاب أمثلة وعِبَر، وهو المرجع الأساسي للمسلم في معاشه ومعاده، فهل يمكن أن يخلو من توجيهات تحدد للجماعة المسلمة علاقتها بأعدائها في حالات السلم والحرب والموادعة والقتال؟ فلو أننا أخذنا آيات السلم وعزلناها عن سياقها وجمعناها في صعيد واحد لقال القائلون: إن هذا دينٌ مهادن مسالم لا يعرف الحرب أبداً، فكيف كان الجهادُ ذروةَ سنام الإسلام؟ ولو أخذنا آيات الجهاد وعزلناها عن سياقها وجمعناها في صعيد واحد لقال القائلون: إن هذا دين حرب وقتال لا يعرف السلام أبداً، فكيف كان الإسلامُ دينَ العدل وكانت تحية أهله بإفشاء السلام؟

-3-

الذين يتهمون الإسلام بترويج العنف والإرهاب يعتمدون على آيات القتال في القرآن، وإني أسألهم راجياً منهم الجواب المنصف: ماذا يكون شعور الواحد منهم لو فتح كتاباً من المراجع الأساسية التي تدرّسها أكاديمية "ساندهيرْست" العسكرية البريطانية العريقة فوجد فيه هذه التعليمات:

"إذا هدّد العدو بلادكم فلا تستعدوا للحرب، وتجنّبوا مظاهر القوة التي تُدخل الرهبة على قلوب الأعداء"، "إذا لقيتم أعداءكم في ساحات الحرب فتجنبوا إطلاق النار على الرؤوس واستهدفوا الأقدام"، "لا تقتلوا أعداءكم حيث وجدتموهم ولا تحاصروهم ولا تضايقوهم، بل اتركوهم ليذهبوا حيث يشاؤون"، "أيها القادة: لا تشجّعوا جنودكم على الالتحام والقتال"، "قاتلوا الذين يقاتلونكم من الأعداء، ولكن احرصوا على أن تُظهروا لهم اللطف واللين وإياكم وإظهار القسوة والغلظة"، "إذا اجتمع الأعداء لقتالكم في جيش واحد فقاتلوهم وأنتم متفرقون، لا تقاتلوهم كافة مجتمعين كما يقاتلونكم كافة مجتمعين".

بالله عليكم: ماذا تقولون لو وجدتم هذه التعليمات في كتاب أكاديمي عسكري يَدْرسه الضباط والمحاربون في كليات أنشِئت لتعليم فنون الحرب والقتال؟ ألن تجدوه هراء سخيفاً مضحكاً وتحكموا على أمةٍ هذا مبلغُ ثقافتها العسكرية بأنها أمة ضائعة حتماً، لا بقاءَ لها ولا نَجاءَ في عالم يسوده المعتدون والأقوياء؟

-4-

ثم لو أن أحداً قال لكم: صحِّحوا هذا الخطأ المُعيب. فماذا ستصنعون؟ ستعيدون صياغة تلك التعليمات المضحكة لتصبح -في نظركم الصائب- صالحة لتربية عسكرية قويمة؛ ستصبح النصوص السابقة على الصورة الآتية:

"إذا هدّد العدو بلادكم فلا تستعدوا للحرب وتجنّبوا مظاهر القوة التي تدخل الرهبة على قلوب الأعداء" = "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". "إذا لقيتم أعداءكم في ساحات الحرب فتجنبوا إطلاق النار على الرؤوس واستهدفوا الأقدام" = "إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب". "لا تقتلوا أعداءكم حيث وجدتموهم ولا تحاصروهم ولا تضايقوهم، بل اتركوهم ليذهبوا حيث يشاؤون" = "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد"."أيها القادة: لا تشجّعوا جنودكم على الالتحام والقتال" = "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال". "قاتلوا الذين يقاتلونكم من الأعداء، ولكن احرصوا على أن تظهروا لهم اللطف واللين وإياكم وإظهار القسوة والغلظة" = "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة". "إذا اجتمع الأعداء لقتالكم في جيش واحد فقاتلوهم وأنتم متفرقون، لا تقاتلوهم كافة مجتمعين كما يقاتلونكم كافة مجتمعين" = "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة".

نعم، لو طُلب من أي مستشار عسكري أن يكتب نصاً عسكرياً تدريبياً يصلح لإنشاء جيش قادر على الدفاع عن "وطننا العربي والإسلامي" وحمايته من الأعداء فلن يصنع شيئاً سوى إعادة نسخ آيات القتال في القرآن.

بقيت نقطة ينبغي توضيحها منعاً لالتباس متوقَّع: إن كلمات المشركين والكافرين في الآيات السابقة كلها ليست لوصف حالة دينية اعتقادية، وإنما هي وصف عسكري في سياق حربي، فالمقصود الذي يوضحه السياق هو "الأعداء المحاربون" وليس "المخالفين في الدين والاعتقاد"، وهذا -مرة أخرى- استنتاجٌ حتمي يفرضه السياق، فقد وردت الأوصاف الثلاثة في مقام المترادفات: الأعداء والمشركون والكافرون = قريشاً وحلفاءها من الأعراب، الذين كان المسلمون معهم في حالة حرب وجودية صِفريّة، فإمّا انتصار وبقاء أو انكسار وفناء.

-5-

في الختام سوف أسوق مقابل آيات القتال التي يؤدي انتزاعُها من سياقها وجمعُها في صعيد واحد إلى تصوير القرآن كتابَ عدوان وإرهاب، سأسوق مقابلَها آيات العدل والسلام التي تثبت أن القرآن خاطب الجماعة المسلمة بحسب الحال، بخطاب الحرب يوم الحرب وبخطاب السلام في وقت السلام:

{أُذِنَ للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا، وإنّ الله على نصرهم لَقَدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}، {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين}، {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، {وإن جَنَحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله}، {فإن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقَوا إليكم السَّلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً}، {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أنْ تَبَرّوهم وتُقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أنْ تَوَلَّوهم، ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون}، {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم يَنقُصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحداً فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مُدَّتهم}، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قَوّامين لله شهداءَ بالقسط، ولا يجرمَنَّكم شَنَآنُ قوم على ألاّ تعدلوا، اعدِلوا هو أقرب للتقوى}. {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأَجِرْه حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه}، {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}.

بل إن العلاقة الأصلية بين المسلمين وعامة الناس هي حالة السلام كما يقول الشيخ محمود شلتوت، وهو يرى -مُحِقّاً- أن علاقتنا بالآخرين هي بالأساس علاقة تعارف ودعوة انطلاقاً من قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتَعَارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.

ثم يقرر بعض قواعد الحرب في الإسلام: (1) الأصل في العلاقة الإنسانية هو السلم والتعاون. (2) إن الحرب إذا وقعت كان لها حكم الضروريات، تقدَّر بقدرها دون بغي أو عدوان. (3) إن غير المحاربين لا يُنالون فيها بسوء. (4) الإسلام يسارع لوقف الحرب تلبيةً لرعبة السلم متى جنح إليها الطرف الآخر. ثم يقول: "إن السلم هو العلاقة الأصلية بين الناس في الإسلام، وإذا احتفظ غيرُ المسلمين بحالة السلم فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية يتعاونون على خيرها العام، ولكلٍّ دينُه يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة" (لتفصيل أكثر يراجَع كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة"، ص453-458).

* * *

نعم، هذا هو ديننا وهذا قرآننا الذي لا نخجل منه ولا ننكر حرفاً فيه، ولكنّا نأبى أن تحوَّر معانيه بإخراج آياته من سياقها الذي وردت فيه لخدمة مقاصد محددة، وأحسب أن المسلمين لو فهموا هذه المعاني بلا زيادة ولا نقصان لما اعتدوا على أحد أبداً، ولعاشوا أعزّة كراماً بعيداً عن الهوان الذي انتهوا إليه في هذا الزمان الكئيب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين